ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – صراخ عقلي يزعجني

اسم السجين (اسم الشهرة) : ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 12/23/2016

السن وقت الاحتجاز: 21 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة البريطانية بالقاهرة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون/تأهيل وادي النطرون

صراخ عقلي يزعجني

“صراخ عقلي يزعجني!”
الوقت متجمد.. السكون يحاوطني.. صراخ عقلي يزعجني!
أسير في فضاءٍ خاوٍ.. أسير وسط أمواتٍ يتنفسون!
أتوقف مكاني.. أنظر للساعة في يدي، أرى 3:02 am مضيئة على الشاشة.
أمسك برأسي كي تتوقف عن الصراخ.. لا فائدة. أتركها و أستمر في السير ذهابًا و إيابًا فوق أشلاء آدميين ملقاة على الأرض.. أسير بلا فائدة. بلا هدف. فقط أنهك جسدي كي ينشغل عقلي عن التفكير. عن الصراخ.. لا فائدة!
أرقد على الأرض في مكان نومي.. أحشر نفسي بين جثتين نائمتين..
أنصت لصراخ عقلي “أين الخصوصية؟!”
أسمعه يردد ثم يذكّرني بمواقف حدثت.. يذكرني بالنوم هنا، كيف يدمر كل قواعد الخصوصية!
كيف كانت أعضاء من بجانبي تصطدم بي في نومي، كم مرة استيقظت برجل أحدهم في وجهي، أو بركبة تضرب ظهري. كم مرة تقلبت فوجدت نفسي فوق من بجانبي!
أغمض عيني كي أطرد هذه الذكريات من عقلي، فيأتي عقلي بمشهد آخر كنت فيه أذاكر.. أو أحاول المذاكرة.
في هذا المشهد كنت فيه محشورًا بين نفس الاثنين و أجلس جلسة غير مريحة و أمامي ملزمة أقرأ منها ما لا أفهم!
و بين تركيزي و عدم فهمي، رأيت رأسًا تتحرك ببطء من الجانب حتى حالت بيني و بين الملزمة..
سمعت صوته يقول: “إيه دا انت بتذاكر؟!”
صمت لوهلة و لم أرد، لكن رغبتي الشديدة في عدم المذاكرة و عدم فهمي لما أقرأ و نسياني لكيفية المذاكرة – لم أذاكر منذ ثلاثة أعوام – فقررت أن أخوض في الحديث معه.
“لا بطبخ!” هذا ما لم أقله.. “اه بذاكر” هذا ما قلته.
و أتبعته بإبتسامة مصطنعة واضحة الإصطناع.. رأيت ارتباكه عندما لاحظ اصطناعها.
لم أحرك عضلة من وجهي حتى قال في ارتباك: “آه طيب.. ربنا معاك.”
وتركني مع الملزمة التي لم أفهم منها شيئًا.
“أين الألغاز؟ أين المعادلات؟ أين (الهندسة)؟!” عقلي يصرخ..
اقتصاد وعلوم سياسية؟!! كيف استقر بي الحال إلى هذه الكلية!
كيف استقر بي الحال إلى السجن.. كيف استقر بي الحال إلى هذا السجن مجددًا.. إلى هذا القبر الضيق.. إلى هذا المنفى بعيدًا عن بيتي..
بيتي؟! بيتي الذي نسيت ملامحه.. بيتي الذي تمنيت العودة إليه.. فعدت، ويا ليتني ما عدت.. عدت و رحل جزءًا مني.. عدت و رحل أبي، رحل روح البيت. عدت لدقائق لأتلقى عزاء والدي.. و لم أتلقاه!!
وسط ذكرى بيتي والمدرعة التي نقلتني من السجن إلى بيتي و من بيتي إلى السجن.. وسط ذكرى أصوات السرينة و رؤية ضباط و عساكر مدججين بأسلحة.. و الأمنيات المبالغ فيها التي لا طائل من ورائها.. تذكرت ما حدث فيّ من بضعة أيام.
تذكرتُني جالسًا في سجنٍ آخر.. في قبر أوسع قليلاً من هذا. كنت أقرأ في رواية بعدما يئست من المذاكرة، و سمعنا صوتًا آتيًا من خارج الزنزانة و يقول “اسمع!! الترحيلة بكره!”
و بدأ في نداء الأسماء. تسعة عشر اسمًا عائدون إلى المنفى الذي كنت أنتظر العودة إليه منذ أربعة أشهر بعد إنهاء امتحاناتي..
تسعة عشر اسمًا و لم يأتي اسمي بينهم.. تنفست الصعداء و جلست أكتب رسائل إلى الشباب هناك.
جاء اليوم التالي و كالعادة كنت مستيقظًا في الصباح الباكر كي أشرب القهوة و أجلس للمذاكرة أو لأقرأ كتابًا آخر لا علاقة له بالمذاكرة كما يستقر بي الحال عادةً..
استيقظت مبكرًا و الناس نيام لعلي أحصل على بعض الخصوصية لسويعات، لكن اليوم يوم مختلف، اليوم يوجد “ترحيلة”..
و على غير العادة و من حسن حظنا جاءنا الخبر قبلها بيوم، تسعة عشر اسمًا و لم يكن اسمي بينهم..
تسعة عشر اسمًا من نفس القضية.. التسعة عشر اسمًا يُنادَى عليهم الآن.
“يلا اجهزوا علشان الترحيلة جت.”
تنفست الصعداء مرة أخرى فلم يأتِ اسمي، أحيانًا تأتي أسماء متأخرة “سواقط” كما يطلقون عليها هنا.
ساعدت الشباب على تجهيز حقائبهم و “لمّ الفرشة” و تمنيت لهم ترحيلة سعيدة..
حتى سمعت صوتًا ينادي من بعيد “أيمن علي إبراهيم موسى … ترحيلة”!
اتسعت عيني و تسارعت دقات قلبي و توقف عقلي عن العمل تمامًا و عمّ الصمت في الزنزانة و تزاحمت نظرات الشفقة عليّ!
أكره هذه النظرات.. و فجأة عاد عقلي للعمل مرة أخرى “إزاي هترحل!! عندي امتحان هنا بعد ١٥ يوم!!!”
هربت هذه الكلمات من شفتيّ و قمت لأبحث عن جدول الإمتحانات الذي أعطيت الإدارة نسخة منه منذ أسبوع، و لممت حاجاتي و ساعدني زملائي و تفاديت النظر إليهم كي لا أرى تلك “النظرة” على وجوههم..
نظرت إلى كتبي ومتاعي وتساءلت عن كيفية حملها و أنا مقيّد بشخصٍ آخر محمَّل بحاجاته!
الترحيلة تأتي بغتة.. تمامًا مثل الموت!!
حملت متاعي و نزلت لأنتظر الترحيلة.. سبقني بعض الطلبة للضابط كي يقولوا له أننا عائدون بعد أيام هنا لأداء الإمتحانات، فلِمَ ترحلوننا الآن؟!!
لكنه قال شيئًا عن فاكس لم يأتِ و أنها تعليمات و كلام من هذا القبيل.. كلام يذكرني بالعسكري في فيلم “جواز بقرار جمهوري” وهو يردد “ممنوع”
ابتسمت ابتسامة ساخرة و قررت ألا أجادل.
ولِمَ أجادل؟!
أأجادل على جلوسي في السجن؟!
هنا أفضل قليلاً لكن لا طاقة لي للمجادلة.. فحملي هذه الأحمال مكبل، و صعودي عربة الترحيلات، و جلوسي فيها محشورًا، و تحمل الرائحة الكريهة، وتحمل المطبات على دكة حديدية مؤلمة، و تحمل الأخاديد الحمراء في اليد من الكلابش، و النزول من العربة، و الإنتظار في الشمس، و تفتيش متاعنا، و أخذ بعض الأشياء منها، و الدخول إلى غرفة جديدة، و فرش “الفرشة”، و تعليق الأمتعة، و التعوّد على الناس و المكان، و التأهيل نفسيًا للمذاكرة، و عندما أتأهل نفسيًا، تأتي الترحيلة لتقيدني إلى هنا مرةً أخرى، و تعاد الكرة مرة أخرى.. كل هذا أهون علىّ من المجادلة.
أخذت نفسًا عميقًا و حملت متاعي و ذهبت بعيدًا عن الضابط و انتظرت الكلابش.
متى عدت إلى هنا؟
إلى هذا القبر الضيق!
متى تحولت إلى متاع؟
إلى شيء؟
إلى حبر على ورق؟
إلى فاكس!
صراخ عقلي يعلو..
عقلي.. ماذا تريد مني؟!
لماذا تمنعني عن النوم؟
و لماذا إذا يئست من محاولات النوم و قررت الإستيقاظ و البدأ في المذاكرة، تفجرت ماسورة الذكريات والأفكار في جمجمتي؟
أريد أن أخترق جمجمتي بيدي و أوقفه عن العمل!!
أغمض عيني بقوة علّي أصمت كل هذا الصراخ
هندسة.. اقتصاد و علوم سياسية.. خصوصية.. عدم خصوصية. ترحيلة مضت.. ترحيلة آتية.. مذاكرة تضيع..
أحاول أن أبدل كل هذا الصراخ بذكرى جميلة..
أراني راقدًا وسط بياضٍ ساطع، في براح لا نهائي، مرتدٍ معظم الملابس التي سافرت بها ومازال البرد يخترقها! رجليّ ملتصقتان بsnow board، و بنت نرويجية الجنسية – تكبرني ببضعة أعوام – واقفة بجانبي تضحك عليّ بعد اختلال توازني، ليس للمرة الأولى، أثناء تزحلقي على الجليد.
كانت هي و أخرى مسئولتان عن مساعدتنا – نحن فريق الغطس لنادي هيليوبليس الرياضي – في النرويج بعد الإنتهاء من أداء البطولة هناك.
“هيا قُم.”
قالت لي بلغة إنجليزية ذات لكنة من بين ضحكاتها.. لم يكن عمري يتجاوز الأربعة عشر عامًا حينذاك. كان وجهي محمرًا خجلاً.
أبتسم عند تذكري هذه الأيام..
أبتسم رغم ظلام المكان – الآن – و ضيقه، لكني ما زلت أحتفظ بذكرى مضيئة.
“إيه اللي مصحيك لحد دلوقت؟!”
يقاطعني صوت حشرجة جانبي، أنظر ناحيته و أقول له وسط الظلام: “مش عارف أنام مانت عارف.. نام انت بس ماتشغلش بالك.”
أري شبحه يهز رأسه، ثم يستغرق في النوم. أحسده على سرعة استجابة عقله للنوم.. و ألوم عقلي على فقدان هذه الموهبة!
أشهق ظلامًا، و أزفر ظلامًا، ثم أنظر في الساعة فأجدها 3:08 am!