اسم السجين (اسم الشهرة) : عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 3/14/2017
السن وقت الاحتجاز: 18 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة
تَوَقَّفْ عن الصراخ! تَوَقَّفْ!
تَوَقَّفْ عن الصراخ! تَوَقَّفْ!
أكرهه وأبغضه و أمقته هذا القلب الساذج اللعين.
يتقطع ألماً مبرحاً لا أطيقه. و يصرخ. يصرخ صراخ كائنٍ معذَّبٍ تُنْتَزَعُ أظفاره بكَلَّابةٍ و يُسلَخُ جلده ببطءٍ يجعله يتلوَّى فى ألم يُذهِبُ العقل.
ذهبوا جميعاً و تركونى. لا أب. لا أخ. لا رفيق. تركونى وحيداً وحيداً. أصرخ وحيداً. أبكى وحيداً. أتلوَّى وحيداً. لم أدرك من قبل قيمة حبيبٍ تبكى على كتفه و تشاركه الأحزان. ينقسم الوزن على اثنين. لكنى الآن أحمله وحدى و لا أقوى على حمله. انهوى فوق ظهرى قاسماً إياه و مُحَطِّماً ضلوعى.
فرحٌ أنا أشد الفرح لخروجهم من هذا الجحيم. لكن لم لستُ معهم؟
كنت وسط فرحتهم غريباً. دخيلاً. مُكدِّراً لصفوها. أسمع أحلامهم و خططهم عندما يخرجون بعد ساعات، و نظرات الشفقة من العشرات، لأنهم ذاهبون. أما أنا فباقٍ.
أرقد وراءهم فى الأطلال. حيث كل شبر يحمل ذكرى. هنا جلست مع عبدالرحمن عارف، هنا سهرنا طوال الليل نطيل الكلام، هنا صلَّينا، و هنا ضحكنا، و هنا افترقنا. أبكى بحرقة على قلبٍ أحمقَ يحب و يتعلق ثم يتقطَّع عند الفراق. ثم ما يلبث أن يحب و يتعلق ثم يتقطَّع. حتى لم يبق فيه موضعُ إصبعٍ سليم.
صار مُرَقَّعاً. و به الآن هذا الجرح الجديد العميق عن سابقيه.
أتذكر وجه أبى. العناق الأخير و الكلمة الأخيرة. أتذكر كل وجه أحببته و آخر لحظة. كلهم منطبعون فى ذاكرتى. و مع كل ذكرى تسيل من الجرح الدماء.
لا يتوقف عن الصراخ. و لا تتوقف العين عن البكاء. و لا تتوقف الروح عن الاحتراق. لم لستُ معهم؟ ماذا جنيت؟ سأقضى الخمسة عشر عاماً. أدرك مجهشاً بالبكاء.
سأقضى الخمسة عشر عاماً. و سأقضيهم وحيداً.
تدُبُّ الآلام بيديها و قدميها فى عقلى و روحى و قلبى و تزلزلهم. لا أستطيع حتى النوم.
لا أستطيع الهرب. مُكَبَّلٌ و يُصَبُّ علىَّ الوجعُ صَبّاً.
أريد أن يتوقف قلبى عن الصراخ.
أريد أن يتوقف عن الشعور.
أريد أن يتوقف تماماً.
لأنى بين اللامبالاة و الحزن، حقاً سأختار الآن اللامبالاة.
و لتذهب إنسانيتى إلى الجحيم.
حلمٌ مؤلم.
بعد أن رحل الناس و خَلَّفونى وراءهم وحيداً، قررت فى الحلم أن أسير وراءهم. وددت أن أشاهدهم بعد خروجهم فى العفو و إن لم أكن معهم.
مشيت حتى وصلت لباب السجن. كانوا قد خرجوا بالفعل. نظرت فوجدت الباب مفتوحاً ما زال. ركضت لأخرج إليهم فإذا بى أرتطم بحاجز غير مرئى. ألمسه فإذا هو أشبه بالزجاج. أحاول ركله لكنه لا ينصاع تحت وطأة ضرباتى. أستسلم و أقف وراءه أشاهد. المئات بالخارج. الأحضان و القبلات و التهانى فى كل مكان. الجو يُشِعُّ سعادة تملؤنى دفئاً و برداً فى ذات الوقت لأنى أعلم أنها ليست من حقى.
أدور ببصرى فيمن كانوا منذ دقائق زملائى بالزنازين.
فجأة أراهم.
أبى. أمى. أخى. أختى.
تفيض عيناى بالدموع و أنا أشاهدهم يحتضنونه و يمطرونه بالقبلات. ما زال فى زيه الأزرق.
يهفو قلبى فى توقٍ حارقٍ أن يكون معهم. وسطهم. منهم.
أدبُّ بقبضتىّ على الزجاج اللعين عَلَّهم يسمعوننى. أشير بيدىّ فى جنون متقافزاً.
لا ينظرون ناحيتى. أدرك أنى أراهم و لا يروننى. أسمعهم و لا يسمعوننى.
أجد أيدٍ تجذبنى من الخلف و ضابطاً يصرخ أن أعيدوه لزنزانته.
ماذا يفعل هذا المسجون قرب الأحرار؟
أحاول إفهامه أنهم أسرتى. أن أبى خرج من هذا الزجاج منذ دقائق. أتوسل إليه أن يسمح لى أن أكون معهم دقيقة. سأرجع. أقسم أنى سأرجع.
يضحك ساخراً من تعدىَّ لحدودى السجينة، ويشير لهم أن اسحبوه.
أحاول أن أقاوم بعنف و أصرخ لأسرتى وسط دموعى المنهمرة. لكن الأيدى لا تلين.
و الزجاج ما زال كالسدّ.
أستيقظ و دموعى تُبلِّل وجهى.
أريد أن أكون عدماً. العدم لا يتألم هكذا.
قلبى اهترأ.