علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد – احمد سعد دومه سعد – جرافيتي لشخصين

اسم السجين (اسم الشهرة) : علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد – احمد سعد دومه سعد

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 1/24/2014

السن وقت الاحتجاز: –

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: –

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

جرافيتي لشخصين

(١) أعلمُ أنَّ “اليأسَ خِيَانَة” لَكِنَّ الثَائِر في وطني – لَوْ كان نبيّاً مَعْصومَاً – و رأى .. تمكِينَ الطّاغيةِ بأَمْر المظلومِ و تهليلِ الفُقَراءِ سيَفْقِدُ إيمَانَهْ!! قالوا اليأس خيانة.. لم أسترح للشعار أبداً، أفهم دوافعه لكن يقلقني استسهال كلمة “خيانة”. أدرك أهميته لكن يخيفني إنكار إحساس طبيعي. يذكرني بمجموعات غاضبة تطوف الميدان حاملة قميص مخضب بدماء باحثة عن أي خائن ترك اليأس يساور قلبه أو عقله. يهتكون عذوبة الميدان. نتظاهر بنسيانهم بينما ننسج أسطورة الـ١٨ يوم الناصعة.. لكنهم لا يتركون كوابيسي!! في كوابيسي يحيطون بأمي راغبين في طردها من الميدان. تقاومهم ليلى سويف التي ولدت في رحم الهزائم فنزلت الميدان ١٩٧٢ ولم تعد للآن. لم يجرؤ اليأس على الاقتراب منها ومع ذلك خونوها ليطردوا شكوكهم ومخاوفهم. أورثتني أمي كعكة حجرية وأورثني أبي زنزانة. احتراماً لتراثنا أوتيتُ- أنا- ميراثاً أفضل من أختيَّ، فقد ورثن مشارح وضحايا تعذيب وأحضان ثكالى.. أخاف حتى من السؤال عن كوابيسهن!! قالوا أن اليأس خيانة.. فهمت لكني لم أقتنع. سبق أن قالوا لي “أخي أنت حر وراء السدود”، وها أنا خلفها مجرد من إرادتي وحلمي، وأعلم عن تجربة أن جزءاً مني سيظل وراء هذه السدود حتى بعد أن يعن لهم إطلاق سراحي!! الأساطير جزء من ميراثي. قالوا “مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر” رغم أن الكل يعلم أن “تابيوكا” و”الكازار” وكل- وأي- جنرال قادر على حبسها بمقدار ما يتراءى له في الحلم من ساعات بعقارب خضراء!! قالوا “الأفكار لا تموت”.. لكنهم لم يقولوا لنا ما قيمة أفكار خالدة لا يسمعها أحد من دوي الرصاص؟! لماذا نخاف الاعتراف بالضعف؟ بأننا بشر تفرمنا المدرعات وتخيفنا وتوحشنا السجون ويشوه الرصاص أفكارنا وأحلامنا، بشر يتكبدون الهزائم وتخذلهم أجسادهم وتضعفهم نفوسهم الأمّارة بالسوء، تحرقهم أحلامهم وتشلّهم كوابيسهم.. بشر يبحثون عمن يساعدهم على اليأس بالحب!! (٢) الأمل.. كمفتاح الجنة تملكه فتكون نجوتْ لكن الجنة ندخلها في الأحلام.. وبعد الموت!! إذا كان اليأس خيانة فماذا عن الأمل؟ على الأقل يصارحنا اليأس بحقيقته، أما الأمل فغدار مخادع. هل رأينا خيانة أبشع ممّا ارتكب بيد وباسم ما تعلقت به من آمال؟! الجيش والشعب إيد واحدة، دولة القانون، الدستور أولا، الشعب، المؤسسات المنتخبة، رفاق الأمس، المناضلون القدامى، قضاة لا يخافون إلا الله، الجماهير، أمن الميدان، الائتلاف، التنظيم، الحزب، الإعلام المستقل، الجناح الوطني، المجلس القومي، الضباط الشرفاء… هل هناك خيانة أكبر من الأمل في بعض- أو كل، أو أي- ممّا سبق؟ هل هناك خيانة أكبر من التمسك بالأمل في تحسن الأحوال بعد إقرار دستور أخلف كتّبته وعد عدم إتمامه إلا بعد الإفراج عن المعتقلين؟ هل هناك خيانة أكبر من التمسك بالأمل في دولة تفرغت كافة مؤسساتها للقتل والتعذيب والوشاية؟! هل هناك خيانة أكبر من الأمل في انتخابات يدور حولها حوار وطني لضمان أقل قدر من المنافسة وأكبر قدر من اليقين المسبق في نتائجها؟! هل هناك خيانة أكبر من الأمل في “المرشح الضرورة” رغم أن كل مؤهلاته تنحصر في هذه “الضرورة”؟ هل هناك خيانة أكبر من الأمل في مرشح مدني يخشى إعلان منافسته للجنرال صراحة؟! هل هناك خيانة أكبر من الأمل في جماهير ترفع صور القتلة والجلادين؟ هل هناك خيانة أكبر من الأمل في رفاق ينكرون الهزيمة كِبرا “لا تحدياً”.. وعندما تنتشر العدوى ويعود الثوار للشوارع والسجون والمشرحة لا يجدون في رفاقهم سند؟! الأمل كاليأس خيانة، ولكنه كاليأس- أيضاً- ضعف إنساني طبيعي.. هنا في زنزانتي أصارع أحلامي وكوابيسي- ولا أعلم أيهم أكثر وجعاً- يتنازعني اليأس والأمل معاً.. لكنني- أبداً- لا أخون!! (٣) لسنا أحراراً.. فاعترفوا لكنّا نتشبث بالغْدّ مأساةُ الناس: قد اقترفُوا ذنب الأمنية .. بلا حَدّْ!! في يوم صافِ بعد إضرابين عن الطعام وعاصفة ثلجية تهدأ السماء ونجد في أنفسنا سكينة. نشرب شاياً في “الحوش” بعد أن تخطينا مرحلة النقاش في جدوى صمودنا وفرص خروجنا، بعد شهر من المراجعات والمكاشفات لا يتبقى لنا إلا الذكريات. وبينما نحكي حواديت حبسات مضت عندما كانت الزنازين تبدو أكثر رحابة والرفاق أكثر إخلاصاً، رغم أن الثورة وقتها كانت “حلماً مستحيلاً”.. تذكرتني ووجدتني هناك- في الماضي- في المترو بملابس المدرسة الثانوية أوزع مع زميلي تقريراً حقوقياً مصوراً عن تعذيب “حرامي مواشي” مسن بالحرق بالجاز في قسم شرطة الفيوم، نبدل القطارات بسرعة قبل أن يفيق أحدهم من صدمة الصورة ويقبض علينا. لم أخبر والدي أنني تسلمت ميراثي يومها. لم يبدُ الأمر مهماً. كنا فقط نحاول التخفيف من وطأة الغضب، كل هدفي كان إخلاء البيت من تلك الصورة البشعة.. لم يكن للأمل أي دور!! هناك في الماضي وجدتني أقل خبرة وأكثر حكمة، أكتب عن جيل يناضل بلا يأس ولا أمل، لا يملك سوى انتصارات صغيرة، ولا تهزه الهزائم الكبرى لأنها أصل الأمور. جيل طموحه أقل ممن سبقوه لكن أحلامه أكثر براحاً. فيَّ كل العلل.. ولكني لست خائناً. ارتكبت الجبن والأنانية، تسرعت كثيراً وتهورت أحياناً، وتكبرت وتخاذلت ولكني أبداً لم أخن.. لن أخون الثورة باليأس ولا بالأمل.. هذا وعد!! (٤) من قال بأنّا أفذاذاً.. أو أنّا جيلٌ مسحور؟! إنّا بشريون.. ولكن.. في الظلمة.. نتمنى النور!! خطيئتنا الكبر لا الخيانة. قلنا: لسنا كمن سبقونا، لذلك فشباب الإخوان غير وشباب الناصريين غير وشباب اليسار غير وشباب الليبراليين غير. انكشف تهافت أسطورتنا يوم جربنا شباب الظباط!! اليوم أرانا ارتكبنا نفس الأخطاء وفينا نفس المثالب، رغم كل ادعاءات التفرد والتمرد لسنا سوى أبناء مخلصين للأهل والوطن، متمسكين بالثوابت والمقدسات والعادات والتقاليد. تسلّمنا ميراثاً كاملاً، ونسعى جاهدين للحفاظ عليه حتى يرثه أبناءنا. سنقول لهم أنتم مختلفون، لن تكرروا أخطاءنا، لكن سننسى أن نشرح لهم أنها أمنية لا نبوءة. سنغني لهم أغاني نجم وإمام أو اناشيد سيد قطب وهاشم الرفاعي، لكن سننسى أن نشرح لهم أنها تراث لا مقاومة. سيتمردون، لكن في نهاية المطاف سيعودوا لميراثهم بإرادتهم الحرة، لكن سننسى أن ننبهم أن هذا قصور ذاتي لا قدر محتوم!! وكيف لا ننسى ونحن مشغولين عن الثورة بأسطورة الميدان وعن أحلامنا بأسطورة تفردنا؟ كيف لا نتوه ونحن مشغولين بالدفاع عن موجة ثانية تغرقنا؟ نصرخ فيهم “ليست مؤامرة منهم عليكم!” و ننسى أن نقول لأنفسنا: “بل هي مؤامرة منهما علينا” أم كانت- ربما- مؤامرة منا علينا؟ نسيتُ.. لكني على يقين بأنها حدثت من قبل. يدعون أن الموجات الأولى كانت غامضة مظلمة لكن بداخلي يقين مطلق حيالها، كل تفاصيلها واضحة وصريحة وعلنية ومحسوبة، لكن الأسطورة، في محاولتها لطمس الضعف والقلق والعنف والعبث وفجيعة الألم وهشاشة الحلم، تفتح لهم أبوابا لبث غموضهم!! يدعون أن الموجة الثانية واضحة صريحة وشفافة، لكنها تبدو لي من لحظتها الأولى غامضة غموضا أليفا، غموض منثور في ميراثي في كلمات مقتضبة: أيلول الأسود- صبرا وشاتيلا- يمين متوحد- نكسة- خميس وبقري- دفرسوار- انقلابات وحروب مخيمات- حروب خليج.. كلمات ورثناها بلا تفاصيل ولا أغاني مفسرة ولا حتى نكات ساخرة، وكأن تلك الكلمات لا تمثل إلا جانب بسيط من وجدان من سبقونا. نسوا أن يحكوا لنا ونسينا نحن أن نصارحهم أن في جهلنا حملناهم المسئولية، واليوم نتظاهر وكأننا لا نحيا كوابيس مشابهة هرباً من الاعتراف بأننا مثلهم لا حول ولا قوة لنا!! (٥) زحمة الميادين والملايين وزحمة الثورات أنستنا أن: “الحلم هو الميدان” والثورة: مسكنها الذات!! للكبر قواعد صارمة. من المهم ألا تتحدث عن نفسك وأنت تمجد في نفسك وإلا انكشفت كمغرور تافه، أما في الحبس فلا تجد ما تتحدث عنه سوى نفسك، فالزمن يتوقف وإرادتك لا تتخطى حدود جسدك. عندما تتحدث عن نفسك بحرية فرضتها الضرورة تجد- حينها- ذاتك. هناك في الماضي وجدتني منكفئا على لوحة المفاتيح أبني مع زوجتي موقعاً يجمع كل المدونات المصرية، رافضين التقيد بقواعد أو تصنيف أو حدود. لجأت إلينا مدونات رفضها مجمع التوانسة لتشكيك القائمين عليه في وطنية اللاجئين ومناضلي المنفى. رأيتني اطبع دعوة لقيام صحافة شعبية وإعلام بديل وأوزعها في كل المحافل لسنوات. لم نسعَ لتكتل أو ندَّع هوية موحدة، كنا معنيين فقط بالتعبير عن ذواتنا، لم يكن هدفنا تبديد غموض تاريخنا المعاصر ولا إنكار إلتباسه وسذاجتنا، إنما ضمان ألا يستغل الغموض لإنكار تجاربنا وإعادة كتابة حواديتنا قسراً أو طواعيةً في محاولة لطمس ما يزعج السلطات أو يزعجنا. هناك في الماضي وجدتني أقل خبرة وأكثر حكمة اكتب عن ذوات مستقلة تقاوم عزلتها بالعمل الجماعي ومع ذلك ترفض الذوبان في المجموع، نتعاون مع من سبقونا قابلين الخوض في مشاريعهم ونظرياتهم طالما لم نتورط في الإيمان بها أو الترويج لها، لم نصارع أجيالاً ولا ادعينا تفرداً.. لكننا تمسكنا- ولم نزل- بأدواتنا!! في غياب اليأس والأمل معاً لا يتبقى غير الذات. غايتنا التأكيد على إرادتنا في بلد السحق غايته، وفطرتنا السعي لمجهول في بلد الجمود فطرته، نناضل من أجل يوم واحد ينتهي بدون يقين خانق بغد يطابقه كما تطابقت كل الأيام من قبله، كل طموحنا أن تبيت السلطة قلقة وإن أقلق هذا منام الجميع.. لكننا مع ذلك حلمنا بنوم وصحيان لا تقلقه السلطات!! (٦) ماذا عن حلم مؤجل؟ أتراه سيُترك تحت الشمس ليذبل كحبة زبيب؟ أم يهمل فينز صديداً كالجرح يسيل؟ أم هل ستفوح رائحته كلحم متعفن؟ أم أن نزيف الحلم سيسكركم بعد تخمره كشربات لعله سيئن ويترهل كحمل شاق؟ أم.. عساه يتفجر؟! عن لينجستون هيو- بتصرف أربعة ميادين تغوينا. أربعة ميادين تتنازعنا. أربعة ميادين تمزقنا بينها. أربعة ميادين تهيمن على أحلام وكوابيس أهلها. الميدان منهم ندّاهة ومتاهة لا تملك تجاهل نداءه ولا الخروج منه، تبقى روحك حبيسة بداخله وإن خرج جسدك. أربعة ميادين تتصارع، وكل منها ينفي الباقي أو ينكر وجوده أصلا. فكل الميادين فوتوشوب إلا ميدانك. خارج الميادين جمهور مذعور يبحث عن استقرار. يتغنى كل ميدان بالجمهور رافعاً شعارات ومطالب بعضها يخصه. ولكن لا استقرار في الأفق فكلٌ ينفي ما عداه. أولهم وأصلهم ميداننا؛ ميدان الثورة والتحرير، نقولها بكل غرور وصلف: هو ميداننا، ليس غرور ساذج كهذا الذي يتهموننا به، فنحن لا ندعي ملكيتنا للميدان، ولا احتكارنا للثورة، وإنما نقر أن الميدان تملّكنا والثورة احتكرت أحلامنا. هذا الغرور لم ينبع من أننا مفجري الثورة أو أننا أحد أسبابها كما يمدحوننا، بل لأن الثورة فجرت طاقتنا، ولأننا أخذناها كسبب لوجودنا. لم نبشر بالثورة أو نتنبأ بها، لكننا حلمنا بها وانتظرناها فصار الميدان ميداننا، وبنينا حوله اسطورة الـ١٨ يوم المقدسة، ومن يومها لم نخرج. ثاني الميادين ميدان الحرب المقدسة. يسافرون هناك لأسابيع أو شهور، لساحات الجهاد ضد الكفار والخوارج، ينتقلون لمجتمع يعيش على غنائم الغزوات والأنفال ويحكم بالشريعة والحدود. يعودون بأجسادهم لكن أرواحهم تبقى هناك حيث حياة كحياة الصحابة. يحلمون بجلد التاريخ و ذبح الزمن. لا تقسو في حكمك عليهم ففيهم شيءٌ منا. ألم نحلم بالشهادة في فلسطين؟ ألم نرفع صور سيد المقاتلين الأجانب جيفارا؟ ألم نهتف مهددين العسكر بجعلها سوريا أو ليبيا من قبل؟ ألم يلجأ بعضنا لمواجهة الكوابيس في منامه بأحلام يقظة عن السلاح؟ كل الثوار يمرون بمرحلة يطلقون فيها الرصاص على الساعات في محاولة لقتل الزمن!! الميدان الثالث هو ميدان “رابعة”. عاش أهله أسابيع في عالم مثالي متجانس، تتنوع ملامح قاطنيه لكن لا ينغصه مخالف، فالكل محتفي بالمشروع الإسلامي مؤمن بحتميته وأستاذيته، تلاشى فيه المسيحي والعلماني واختفى منه كل ضعيف التبست عقيدته أو تذبذب إيمانه. عالم يأخذ فيه التنظيم حجمه الطبيعي ووضعه الريادي ويتخلص من كل ما علق به من وسخ مساومات الماضي ويشفى من كل جراح القمع. خرجت أجسادهم منه مرغمة وبقيت أرواحهم تحوم حول دماء إخوانهم، تحلم بدولة داخل الدولة ومدينة داخل المدينة وأمة داخل الأمة كالبنيان المرصوص تقاوم خلف قيادة تاريخية وفق خطة ربانية. لا تقسو في حكمك عليهم ففيهم شيءٌ منا. ألا تذكر الأيام الصعبة بعد “الجمل” حين كنا نهتف ” الشعب يريد” في الميدان مزهوين بتناغمنا رغم تنوعنا، لكن في الوقت ذاته نخشى الخروج من الميدان خوفاً من عداء جيراننا وأهالينا وقسوة اللجان الشعبية التي حسبناها ثورية ثم وجدناها تسعى جاهدة لوأد الثورة وتأديب “أهل التحرير”؟ كل الثوار يمرون بمرحلة تحاصرهم فيها اليوتوبيا فيفلت عيارهم لتظهر بينهم “خيام التعذيب”!! الميدان الرابع هو ميدان التفويض. يعيش أهله في فيلم أبيض وأسود جميل عن أيام زمان عندما كانت الدولة أبوية صارمة والمؤسسات طيبة حانية والضابط شاب وسيم ومصر فلاحة رشيقة والزعيم محبوب والكل مبتسم لأن الحبكة دائماً سهلة والنهاية سعيدة. فيلم يعاد كل يوم بدون أن تمل وينتهي دائماً قبل ٥ يونيو ١٩٦٧، وربما يتوقف عندها أثناء سماع أخبار إسقاط طائرات العدو. كيف يشفى الجنرال ومحبيه من حمى التفويض وقد عاشوا من إحساس تصورناه انتهى من نصف قرن؟! انفضّ الميدان لكن ظلت أرواحهم عالقة به. في هذا الميدان لا حاجة لحلول للفساد أو التعذيب أو القتل أو الإفقار أو القهر.. فكل هذه شائعات. لا حاجة لتخطي الهزائم، فمصر أصلاً لا تُهزَم و قيادتها لا تخطئ. لا تقسو في حكمك عليهم ففيهم شيءٌ منا. ألا تذكر أين بدأ هتاف “الجيش والشعب ايد واحدة”؟ ألم نقف على مداخل ميداننا نفرز العدو من الصديق بالنظر في بطاقات الرقم القومي؟ ألم نضع القضاة على منصة ميداننا طالبين منهم الحكمة؟ ألم نرفع الدستور- أي دستور- لمصاف قصاص ثورتنا؟ كل الثوار يمرون بمحاولات مستحيلة للعودة لعصور البراءة والطفولة وينتهي بهم الحال لمراهقة متأخرة!! (٧) لا يملك إعصار “النصر” بأن يختارْ.. .. الكلّ سيهلك … و الثورة كتتابع موج سيفتت من غير هلاك!! لا أقصد أن أساوي بين ميادينهم وميداننا، لكنني أهرطق قليلاً لأوضح أنهم بشر ممسوسين مثلنا، يمكنك أن ترى شذرات منّا فيهم، وشذرات من ميداننا في ميادينهم بحلوها ومرها. في الميدان الثاني رأينا لجاناً شعبية تدير الحياة بعد انسحاب السلطة، وفي الثالث رأينا النساء يتصدرن المشهد رغم تهميشهن في التنظيم وعلى المنصات، وفي الميدان الرابع رأينا المسلم والمسيحي “إيد واحدة” بجدّ. بشر مثلنا، أسرى ميادينهم مثلنا، محاصرين فيها مثلنا، وإن طال أسرنا وامتد حصارنا ستزيد خطايانا مثلهم.. لا أهرطق لأبرر التسامح معهم، بل لأبرر التسامح مع أنفسنا!! أحَبّوا ميادينهم لأنهم عاشوا فيها أحلامهم، لكننا نحب ميداننا لأننا فيه أحببنا الحياة، وفيه حلمنا لمن نحب بحياة أفضل.. وقد نتشابه ولكن بكل صلف وغرور أقر بأن حلمنا يميز ميداننا، لكن أحلامهم مجرد كوابيس!! تُبْنى في كل ميدان أسطورة تحبس أهله فيه، والأساطير تُبْنى عن الأحلام والكوابيس بلا تمييز. ارتكبوا كبائر في ميادينهم وارتكبنا نحن صغائر، ولكننا نتناسى أحلامنا ونبني أساطيرنا من كوابيسنا. ارتكبوا هم الكبائر ولكننا أشركنا.. أشركنا بالحلم عندما قدسنا الميدان، وانحرفنا عن صراط الثورة المستقيم عندما بنينا أضرحة لجراحنا ومخاوفنا. اتحبسنا في ميداننا لأننا مثلهم نبحث عن حسم ونستبدل أحلامنا بما هو أدنى لمجرد تصورنا أنه سيسهل حسمه. ضللنا طريقنا عندما سعينا لأن يحبنا الناس ويحبوا ميداننا بدلاً من أن نسعى لما نحبه لهم. ميداننا الوحيد المبني على حلم وحب ولكن الناس يبغون استقراراً.. والاستقرار يحتاج لحسم، والحسم يحتاج لقوة، والقوة تقتل الحب وتشوه الحلم!! الحسم خيانة، فهو يستبدل قوة الناس بما هو أدنى: السلاح أو التنظيم أو الدولة. الحسم خيانة فهو يستبدل الحلم بما هو أدنى: خارطة طريق أو ترتيبات سلطة أو بعض فتات المطالب والإصلاحات. (٨) يحتاج الراقص للجمهور.. تحتاجُ السلطة للشعب لكن الثائر حين يثور لا يعبأ إلا بالحب!! تمر بنا ليلة أخرى نقتل فيها الأمور بحثاً ومناقشة، نصرخ لتصل أصواتنا عبر “نظارات” الزنازين فنملأ العنبر صخباً ونحن نتحدث عن تسريبات وحملات تشويه، عن صحف توبخنا على فقدان شعبيتنا، وتفسر حبسنا بعجزنا عن الحسم، وتبرره بارتفاع سقف أحلامنا و كأنها جريمة!! من سخطي أهرب إلى نفسي في الماضي حيث وجدتني في أربعاء من مايو ٢٠٠٥ حسبناه أسود لأننا لم نكن نعرف ساعتها ما يخبئه لنا الزمن من سواد، يوم استفتاء حسبناه مشئوم غير مدركين أنه لم يكن سوى نذير شؤم، يوم ألهمتني غضبة النساء ورفضهن الامتثال لأوامر أن يلزموا بيوتهن سطرها مبارك على أجسادهن بأيدي بلطجيته. يومها خنقني تمسكنا بمساحات تصورناها آمنة- كسلم النقابة- رغم أننا اكتشفنا أنه لا أمان- مطلقاً- في دولة العسكر!! وجدتني هناك مع الرفاق نخطط للخروج من وسط البلد إلى السيدة زينب حيث كنسنا الضريح على ظُلّامِنا وإلى الزيتون لنتضرع للعدرا وندعو على حُكّامِنا. لم تكن محاولة لاستدعاء قوة غيبية لتنصرنا، إنما كنا نسخر من ضعفنا ونؤكد أننا نعلم جيداً قلة حيلتنا.. لكنها لن تعطلنا!! وجدتني مع الرفاق هناك نحرض على الخروج المنتظم في إمبابة وشبرا وناهيا. لم تكن محاولة لاستدعاء قوة الجماهير، كنا فقط نحاول أن نقول لهم أننا خبرنا جانباً من مظالمهم وجراحهم ونسعى للتداوي بهم ونحرضهم على الجور بالشكوى. وجدتني هناك مع الرفاق نتحدى عقر مخاوفنا في عقر دارهم بلاظوغلي، لم يخطر ببالنا أن بإمكان جمعنا الصغير المحاصر في بحور الأمن المركزي حسم أي شئ، كنا فقط نؤكد لهم أن سحق أجسادنا لن يحسم المعركة لصالحهم!! هناك في الماضي وجدتني أقل خبرة وأكثر حكمة، أرد على هذا الباحث االذي يساهم اليوم في صياغة دستور “الثورة” وكان في الماضي ينفي أصلاً إمكانية قيام ثورة شعبية، رددت عليه بالتبشير بثورة لا تسعى للحظة استنفار تحسم فيها كل الأمور في معركة واحدة مقدسة، وإنما عملية مستمرة تتسارع فيها معدلات التغيير ومعدلات زيادة الثوار. وجدتني أكتب عن الطبيعة الأنانية للنضال، والتأبين كلحظة وحيدة لاختبار شعبية المناضل، وعن ضرورة أن نهدم أساطيرنا بأنفسنا وأهمية ألا نتحول لأسرى لطقوسنا.. وأسرى للمساحات الآمنة!! هذا قدرنا. لا نملك أن نقدم للناس إلا أعلامنا، ولا نتقن إلا تحريضهم على الحلم، لا حول ولا قوة لنا إلا الحب؛ يحبوننا عندما تغلبهم شجاعتهم ويكتشفوا قوتهم، ويكرهوننا عندما تغلبهم مخاوفهم ويقتنعوا بضعفهم وحاجتهم لقوة خارجهم!! (٩) يتصارع سكان “المتن” على لقب “الرجل المتنازل” و” النصر” لمن خان بصدق … كل المنتصرين انهزموا أما نحن: اخترنا الهامش!! في تراثنا: الحرية تؤجر لمستبد نحسبه عادل إن وافق عرضه المواصفات؛ هذا يساومنا على استقلال الوطن والآخر يستبدلها بالرخاء، وقد يعرض أحدهم أن نتخلى عنها مقابل الأمن والأمان، أو حماية الأقليات. في تراثنا الكرامة إما للفرد أو للأمة لا يجتمعان، والعدالة إما في المحكمة أو في الأسواق لا يجتمعان أيضاً. دخلوا الميدان معنا أو سبقونا- لا أذكر. كان جل طموحهم أن تعرض الحرية في المزاد. قلنا لا نمانع خوض تجاربكم لكننا اشترينا حريتنا بالدم ولن نساوم عليها. سألونا: فما تجربتكم؟ قلنا: نبقى معاً فننال الكرامتين والعدالتين وكل الحريات. قالوا: “ما أعظمكم.. هكذا يكون الشباب.. أبهرتم العالم بحكمتكم.. إياكم وترك الميدان”- ثم خرجوا وتركونا!! في تراثنا الحرية تؤجر لمن يطابق المواصفات، فهل طابق الجنرال المواصفات؟ دعونا نرى: اصطف أهل القومية خلفه ثم بشروا بناصرية تحاصر الأشقاء وتتحاشى الأعداء.. واصطف أهل اليسار خلفه ثم بشروا باشتراكية القروض ورفع الدعم وتخفيف الأحمال، واصطف أهل الليبرالية خلفه ثم بشروا بدولة الهيبة وقوانين سحق الإرهاب!! لا كرامة جسد ولا وطن، ولا عدالة عيش ولا قصاص. لم يساومهم الجنرال بذهبه أو بسيفه، لم يعرض عليهم غير شرف الظهور في المتن بعد عقود قضوها في الهامش. اصطفوا متلاصقين في ظله لأن المتن ضيق ولا يسع إلا الجنرال، لم يمضوا عقوداً أو تلقوا ثمناً، فقط وقفوا وشكروه على كرمه وسعة صدره، ثم تحسروا على خير شباب ضل طريقه وعاد للهامش، تحسروا أو تشفوا أو تندروا أو تعجبوا. لا يهم، ففي محبسي أرى الكل سواء!! (١٠) قصرك لن يتسع لحلمي و الزنزانة.. عبث محض هل شاهدت “سحاباً” مِرّة – في سفر ٍ يحتاج لإذن؟! يغلق السجن يوم عيد الميلاد ونبقى في حبسنا الإنفرادي يومان لا يفتح فيهم الباب. يتملكني الغضب وأنا أطالع الصحف التي اكتشفت لأول مرة أن بيننا “أقباط”. في القداس ترفع صور الجنرال أكثر ممَا ترفع صور صاحب العيد. أبحث عن وجه مألوف فلا أجد. أين كان هؤلاء عندما دخلنا- نحن- الكاتدرائية حاملين نعوش الشهداء؟ أين كانوا يوم وقفنا نحمي أسوارها من الخرطوش والغاز؟ لو أن الأقباط خرجوا- فعلاً- من الهامش فلماذا يخلو المتن من فقرائهم رفاق الشهداء؟ المتن خيانة لأنه لا مكان فيه إلا للجنرال. يعود بي غضبي للوراء، وهناك في الماضي أجدني أقف في مظاهرة متجاهلاً مطالبها وشعاراتها وأوزع بيانا صاغه صديقان، بيان كتب لنا أساساً لا للجمهور، يدعونا للاعتراف بالجرح والمجاهرة بتفشي الكره، ومقاومة الإنكار، بيان يؤكد أن في مصر أزمة طائفية عميقة يعيقنا عن مواجهتها الاستبداد ولكنها لن تنتهي بزواله. لم نسع يومها لاقتحام المتن ولا إقحام الأمر فيه، كان هدفنا أن نتواصل مع أنفسنا ونتناقش فيما يؤلمنا!! هناك في الماضي وجدتني أقل خبرة وأكثر حكمة، أكتب عن هوامش أكثر براحاً من المتن، أكتب عن تاريخ مكون من أكثر من سردية، فالهوامش- بعكس المتن- متعددة. وجدتني أنظر لضرورة التفاعل مع كل القضايا والمظالم مهما همش أصحابها، و إن أغضب الأمر أهل المتن، ولضرورة رفض دعاوى فرض أولويات على الحرية والكرامة و العدالة!! في الميدان تُهنا ونحن نبني أسطورتنا، نسينا أن الثورة اقتحام عنيف من الهوامش للمتن، لا انتقال أو انسحاب من الهوامش. شتتونا بكلامهم عن التيار الرئيسي ورجل الشارع العادي حتى بدا لنا المتن وكأنه يتسع للأغلبية. ساومونا وقالوا أنه يتسع لكم إذا تخليتم عن شباب المتاريس والمولوتوف، وأطفال الشوراع، والأقباط، ومن أصيبوا أو استشهدوا خارج الميدان، وعن أهل سيناء. تعاقبوا علينا والكل يعرض موقع في ظل الجنرال بشرط التخلي عن هامش من هوامشنا.. عن جزء منّا! المتن خيانة.. ولكني لم أخن أبداً. يظنون أنهم ردونا للهامش غير مدركين أننا لم نبرحه أبداً، فقط تهنا لوهلة. لا تتسع الصناديق ولا القصور ولا الدواوين ولا السجون ولا حتى القبور لأحلامنا. لم نَسْع يوماً للمتن لأنه لا يتسع إلا لمن تخلى عن الحلم. حتى الميدان لم يسعنا.. لذا دارت أغلب معارك الثورة خارجه، وظل أغلب أبطالها خارج الكادر. (١١) صحيح أنا لامس الأرض لكني باطير في السما باحلم بينا مع بعض في العالم نفسه إنما ده زماننا مفهش بعاد بوستك لسة بتربكني و”باحبك” منك تمحي عسكري م اللي ف بغداد عن “ريس بيك” بتصرف عندما تعلقت أحلام من سبقونا بالزعيم هزموا معه، ولما وجدوا في أنفسهم القدرة على ذبح الزعيم وإنهاء أسطورته توالت انتصاراتهم الصغيرة. تصورنا أننا نختلف عنهم، فنحن لا نؤمن بالزعماء. لم نفهم أن الفضل يعود لهم في تحرير تراثنا من سطوة الزعماء للأبد. نحن مثلهم في ضعفهم و قوتهم، وعلينا تحرير أحلامنا كما حرروا أحلامهم. الميدان مجرد استعراض للتعبير عن هذه الأحلام، تفيض به قلوبنا من محبة ما برز منه من أحلامنا. صنعنا منه أسطورة حبستنا وطمست تجربتنا وأذابت ذواتنا. تهنا داخله وظنناه غاية الحلم وجوهر الثورة. واجب علينا ذبح أسطورتنا بأيدينا كما ذبحوا أسطورتهم. حان وقت هدم الميدان لنتحرر ونعود لأنفسنا وثورتنا. .. أورثتني أمي كعكة حجرية ومحبة تخترق الزنازين. وأورثني أبي زنزانة وحلم لا تقيده أسوار سجن ولا تحيطه أطراف ميدان ولا تحده حدود وطن. لم أتسلم ميراثي منهما بعد كاملاً؛ فما زلت أنتظر أن أتعلم منهما كيف أقضي عمري في الميدان بدون أن يأسر روحي ويستنزف حلمي، كيف أظل بداخله وأنا قادر على مواجهة الكوابيس بداخلي. وما زلت انتظر أن اتعلم منه كيف أخرج من السجن دون أن يبقى جزء مني في زنزانته، كيف أخرج وأسامح من ظلمني ومن خذلني؟ كيف أتحول من شوكة في ظهر الظلم لسند لكل المظاليم؟! إلى أن اتسلم ميراثي كاملاً.. سأعود كما كنت بلا يأس ولا أمل، بلا متن ولا حسم، أحلم بثورة لا يحدها ميدان، وأونس وحشة زنزانتي بمحبة لا يقيدها سجان. و أخيراً: “مبروك ع البوية الجديدة”. (١٢) أن تمسح – للثورة – صفحة تعني أن تعطينا فرصة لنعيد التفكير ونكتب!! ــــــــــــــــ تنويه واعتذار نعتذر للقراء عن أي ارتباك يُلاحظ في النص أو تذبذب يمس تماسكه فقد نتج ذلك عن ظروف كتابته، فلم يكن من السهل على من اعتادوا التعبير الآني بالموبايل والكيبورد أن ينخرطوا في عملية كتابة بالورقة والقلم دامت حوالي أسبوعين من الحبس الإنفرادي لم يتسن خلالها لأيِّ منا أن يبيت ليلة واحدة وبحوزته النص كاملاً!! كما نعتذر للزملاء في عنبر “أ” سياسي بليمان طرة على ما تحملوه من إزعاج أثناء محاولة التعاون بين شاعر يسكن أول زنزانة في العنبر، ومدون يسكن في آخر زنزانة، وكلاهما فضلا النقاش في النص بالصراخ ليلاً بدلاً من تضييع فرصة ساعات التريض في الهواء الطلق النادرة. حاولنا في هذا النص أن نعبر عن امتناننا لمن طردوا عنّا وحشة الزنازين بمحبتهم ورعايتهم، وعن عميق إيماننا بجيل رفض الوقوف في طوابير متن السلطة. ولا يفوتنا طبعاً أن نشكر السلطة، فلولا “البوية” الجديدة لما وجدنا مساحة للتفكير والرسم. علاء ودومة