محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 6/24/2015

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ

“اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ” *
1 – دفاع عن الإنسان
حين يُفقَدْ المعنى, فالجنون هو أشد الخيارات إغراءً, واليأس أقربُ راحة في متناول الروح, والموتُ حلمٌ عصيُّ المنال. أحيانًا أفقد قدرتي على استيعاب معنى القهر الذي يحيط بي من كل جانب, أشعر بلا جدوى الاستمرار في صراع –ولو على مستوى القيَمْ- مع نظامٍ طغيانه لَهُ رسوخُ الأهرامات عبر الزمان. أحيانًا, أكف عن التطلع للسماء, أضم جناحي المرهقين, وأكتفي بمشاهدة الرياح وهي تطوّحني حيث شاءت.. أصوم عن التحليق, عن الأحلام, عن الكلام, أصوم حتى عن الصحو نفسه.. أستيقظ جسدًا لساعاتٍ معدودةٍ يظل ذهني خلالها في خدرٍ متواصلٍ. ثم ماذا؟ ثم أعودُ كُلَّ مرةٍ وقد ازددْتُ ثقةً أن تلك الحياة, أو للدقة ذلك الموت لم يكن لي يومًا, ولن يكون. نداءٌ ما داخلي يدفعني للمقاومة دفعًا. نداءٌ يعرفُهُ جيدًا من حدّق في وجه الموت يومًا, نداءٌ له جموح الغريزة, وحتمية القدر, وقدسية دماء الشهداء..
إنه نفس النداء الفطري الذي يتجلَّى في مقاتلٍ بُدائيٍ يشدُّ قبضته على رمحِهِ وهو يبحث عن طعام أطفالِهِ داخل غابةٍ موحشةٍ, ويتجلَّى في مُبَرْمِجْ عبقريٍ يُحدّق في شاشة حاسوبه داخل أرقى شركةٍ الكترونية. فيما يتشاركان؟ في ما يتشارك فيه جميع البشر: غريزتي الأكل والجنس؛ الأكل للحفاظ على الجسد الذي يستلمه الجنس للحفاظ على النوع بعد ذلك. لاقتسام الطعام ولالتحام الجسد أبعادٌ اجتماعيةٌ وعاطفيةٌ وروحيةٌ بالطبع. لكن النتيجة النهائية هي استمرار الحياة في إنسانٍ مفطورٍ على حب بني جنسه والتضامن معهم غريزيًا.
الصرصور الذي يركض على الحائط أمامي حالًا يأكل ويتكاثر أيضًا, ويبذل مجهودًا ضخمًا ليهرب من ضربات الأحذية. لكننا –خلفاءَ خالقِنِا بأرضه- مُكّرمون بإمكاناتٍ أعلى لنَضُخَ الدماء في عروق الحياة. الإنسان في مواجهة الموت يقاتل بالكلمة, بالنغمة, بالرسمة, بالحكمة, وبالسلاح أيضًا إن اضطرَّ.
أتدري أين المشكلة يا صديقي؟ أنهم جميعًا يدّعون الإنسانية والقتال من أجل الحياة. البرنامج الذهني الذي زُوِّدَت به أدمغتنا للتضامن مع نوعنا يستحيلُ محوه تمامًا.. لكن يسهل تشويههُ جدًا. لذا تجدُ أعتى السفاحين بطشًا, حتى في غياب من يعارضه أو يسائله, يدعّي مسوغًا إنسانيًا ليرتكب خلف ستاره ما شاء من جرائم: ستالين كان يعدمُ ويذبّحُ باسم “ديكتاتورية البروليتاريا” من أجل العدل والمساواة! هتلر كان يُحرق ويُبيدُ دفاعًا عن الجنس الآري الراقي, وليهب العالم الحائر السلام الألماني الكوني! الصهاينة يرتكبون الآن ما هو أبشع ليحموا المواطن اليهودي المُتحضِّر المضطهد من العرب المسلمين الهمج! والنظام المصري يعتقل ويقمع الطلاب ليحمي العالم من الإرهاب! تختلفُ تجارب الأمم, والأمر ليس بهذه البساطة بالطبع, لكنّ هناك عنصرًا ثابتًا في معادلة الطغيان: “لا تنسَ وأنت تقتل الآخر أن تُضفي عليه صورة عدو الإنسانية, وتدق طبول الحرب المقدسة من أجل الإنسان..”
سأحكي لك واقعةً أكثر تناقضًا ووضوحًا, في منتصف جلسة تعذيب, صرخ أحدنا بشكلٍ هستيري وشكى من آلامٍ تكاد تودي بحياته, توقف الباشا.. “رُحْ يا ابني هات لهم شريط مسكن”, وقبل أن يأتي المجنّد كان الباشا يُحدثنا بنبرةٍ متأثرةٍ: “إنتم اللي بتعملوا كده في نفسكم لو ما كنتوش مشيتوا في الطريق دا من الأول, لو جبتوا م الآخر وحكيتوا كل حاجة ما كنتش مديت ايدي على حد فيكم”. تظنه كان يتبع أسلوب الترهيب والترغيب؟ هذا ما حدث فعلًا في مراتٍ أخرى, لكن هذه المرة تحديدًا كان يعني ما يقول, كان يشعرُ بالأسف لأننا نجبره أن يعذبنا! بعض هؤلاء الجلادين يُعذِّبُ وهو مقتنعٌ تمامًا أنه يخدم الوطن والإنسانية ويُرضي الله بما يفعل, أثق بهذا من تجربتي وتجارب قُصَّت عليّ. أعطى من طلب حبات مُسكنةٍ ثم واصل الجلسة حتى تأكد أن الجميع اعترف بما اقترف ومالم يقترف أيضًا.. ثم مضى لينام هاديء البال بعد ان أدَّى مهمته الوطنية..
أتدري شيئًا آخر؟ بعد كل رسالةٍ أو مقالْ أقرر ألا أكتب عن أسبوع التعذيب ثانيةً, ليس لديَّ ما أخجل منه لأخفيه, أحرى بالجلادين أن يخجلوا هم, إنما لأسبابٍ تتعلق بأولويات الخطاب, ومحاولة هدم صورة الضحية التي يرسخها الإعلام عن جميع المعتقلين. لكنني دائمًا أفاجأ بذكرى تنفلت مني للأسطر بينما أكتب عن أمرٍ لا علاقة له بالأسبوع اللعين.
بعد فترة لم أعد قلقًا من هذه الذكريات البالونية التي تطفو على لسطح الذاكرة, ما كان يقلقني هو تلك الذكريات الكثيفة التي تستقر هناك.. بعيدًا.. في قاع اللاوعي. أعجز عن رؤيتها, لكنني أسمعها تدقُ. الأمر أشبه بالحياة مع قنبلة موقوتةٍ خبيئة في قاع دماغي, لا أراها, أعلم أنها هناك, وأسمع دقات المُوَّقِتَ.. كل ثانية.
بعد فترةٍ لم اعد أقلق حتى من هذه القنابل, تمكنت أن أتغلب عليها, أبطل مفعولها, بل وأحوّلها لضحكاتٍ ساخرةٍ أو لطاقةٍ مُحرّكَةٍ. لا أعرف متى وصلت لهذه اللحظة تحديدًا, ربما بعد اعتقال أبي وأخي بتهمة الشوق العمد ومحاولة رؤيتي في المحكمة مع سبق الإصرار والترصد. عرفت أنهما سُحِلَا قبل اعتقالهما. لم أبكِ كثيرًا. لم أنْهَرْ عصبيًا كما توقعتُ لنفسي. على العكس انفتحت شهيتي بشكلٍ لم أعتَدْهُ أبدًا, صرتُ أفكر, أقرأ, أكتب بمعدَّلٍ مُتسارعٍ. أعدت النظر في كل ما قرأت, وكل ما جرى لي منذ الأسبوع الأوَّل: [ لابُدّ من معنى لما يجري لي, أنا لم آتِ السجنِ عبثًا, ولم اخلق عبثًا أصلًا كي أتقبّلَ القهر كحقيقة أفرُّ منها كما يفرُّ الصرصور من ضربات الأحذية. مِما أفرُ؟ بعد اعتقال أهلي, كسر هذا النظام العاهر آخر جدار خوفٍ في نفسي. عزيزي القهر, حدِّق في وجهي جيدًا, لم أعد خائفًا منك, شكرًا على المساعدة]
الآن بعد شهورٍ, أفكر في الموت والحياة في القهر والصرصور مرةً ثانية. لابد أن هذا الصرصور يعرف أننا أعداءهُ, أو على الأقل يستشعر الخطر غريزيًا حين يقترب حذاءٌ منه, يهربُ من أجل حياته وجِنسِهِ, وربما يحزن ويفرح كالبشر أيضًا. إنه يدرك النتيجة النهائية ويحاول تجنبها, لكنه لا يدرك الحكمة الكلية من خلقه وحياته. الإنسان فقط هو من يحاول الوصول إلى هذه الحكمة. الله وحده من يعرف هذه الحكمة الإلهية من خلقنا, لكننا أُمِرنا أن نسعى لتحصيلها ما حيينا. الأديان السماوية, والفلسفات الأرضية أجمعها جاءت لتُجيب على هذا السؤال: “لماذا خُلِقتُ أنا الإنسان؟ ماذا يتوجب عليَّ فعله الآن؟”
[أنا خُلِقتُ لأعبُدَ الله, لأعرفه, لأجعل الأرض مكانًا جديرًا بالحياة. يتوجب عليَّ الآن أن أقاوم هذا القهر والبؤس, يتوَّجب علي مواجهتهما بأن أبتهج, أغني, أكتب, ولا أتوقف أبدًا عن محاولة الفهم والوصول إلى الحكمة.] هذا ما أعتقده الآن يقينًا. وهذا ما يحاول د. عبد الوهاب المسيري التأكيد عليه في معظم كتاباته. يحاول هذا الرجل مساعدة قارئه على تكوين نماذج إدراكية مركبّة, تعبر السطح, وتمتلك رؤية أعمق للحياة. يحاربُ هذا الرجل طريقة التفكير الاختزالية التي تفترض رؤية أحادية وصورة نمطية للكون –هذه هي طريقة معظم الطغاة بالمناسبة- المسيري يحاول تحرير العقول, التي بدونها لن تتحرر الأوطان أبدًا.
أعدت قراءة كتاب “دفاع عن الإنسان” لـ د. عبد الوهاب المسيري مؤخرًا. كان أهداني إياه صديقٌ مقرّبٌ في عيد ميلادي منذ سنوات. والكتب حين ترتبط بعلاقة إنسانية تتخذُ بعدًا حميميًا دافئًا بين يدي القاريء. مع كل فصلٍ أود لو أرى صديقي لأخبرَه أن هديته أنقذتني من السقوط في فراغ العجز المهلك, لأخبره أنني ممتنٌ لهُ, لأخبره أني أحبُهُ وأحبُ المسيري. جدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: هذا المقال هو الجزء الأول من متتالية, كل نص فيها عن كتابٍ بعينه.
محمد فوزي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* “أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ :
اكتُبْ تَكُنْ !
واقرأْ تَجِدْ !
وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ ، يَتَّحِدْ
ضدَّاكَ في المعنى …
وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ”
-من جدارية محمود درويش