محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – [المقال السابع عشر] “اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ”

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 7/13/2015

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : سجن المنصورة العمومي

[المقال السابع عشر] “اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ”

[المقال السابع عشر]
“اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ”
2- البوصلة القرآنية
الزمان هو البعد الرابع للأبعاد المادية المكانية الثلاث, هذا وفقًا لتنظير الفيزياء. هل يخضع الزمان لقوانين المادة إذن؟ هل يتوقف الزمان فعليًا إن توقفت حركة الأرض حول الشمس, والالكترونات حول النواة, لاختلال موازيين الطاقة مثلا؟ الزمان هو بشكل ما ليس سوى الحركة. إذن اللازمان هو السكون التام, اللازمان هو الموت.
ما قيمة ومقدار الزمان الذي نحياه على هذه الأرض؟ وما معنى تعبيري “يومًا أو بعض يوم”, و “عشية وضحاها” اللذين يترددان في القرآن كوصف لشعور البشر تجاه حياتهم الدنيا, بعد أن عبروا للآخرة؟ هل لنا أن ندرك أن زماننا الأرضي بتاريخه, وحضارته, وعلومه, وفنونه.. بحروبه, ودماره, ودمائه, وشقائه.. كل هذا ليس سوى لحظة مادية ضئيلة تعبرها الروح إلى الخلود الأبدي؟ هذه الحقيقة رغم ارتكاز كل الأديان وبعض الفلسفات عليها, تستعصي على الاستيعاب البشري الكلي, وتظل في دائرة الغيب. تقريبًا, هذا العجز عن الاستيعاب هو أحد “تناقضات كانط” * التي يبرهن بها على قصور العقل البشري عن الاستدلال بالمنطق ليصل إلى الحقيقة. إذ يستحيل الجمع _في عقل منطقي_ بين متناقضين شديدين: تمدد الكون ومحدوديته.. استمرار الزمان وفنائه.. تفاهة الحياة وعظمتها معًا.
في السجن, بعد أن سلبتك الجدران المكان, يمنحك تشابه دقات الساعة علوًّا نسبيًا فوق الزمان, لتبصر من هناك الصورة الكلية لحياتك.. بل لحياة جنسك البشري إن تدبَّرتْ. نحن _البشر_ نتصارع من أجل البقاء المادي يوميًا, هذا واضح. لكن الصراعات الأقوى التي خِيضَتْ عبر التاريخ كانت في سبيل القيم “الحق, الخير, الجمال” , بين أنصار هذه القيم وأنصار أضدادها. هذه القيم الإنسانية روحانية المنشأ, تتجاوز اللذة الحسية, والمنفعة المباشرة, وتتحدى بتجاوزها المادة.. والزمان.
في السجن تستطيع أن تستوثق من انتماءاتك: قسوة الظلم وسياطه على لحمك الحي, تُعمِّقُ انتماءك لكل ما يجهر بصوت الحق. الشر الذي تراه عن قرب لأول مرة بوضوح في وجوه جلاديك, يُعمِّقُ انتماءك إلى كل ما يحمل جوهر الخير. والقبح الذي يتبدّى في كل شيءٍ حولك يُعمق انتماءك إلى كل ما يفوح برائحة الجمال
لم أحب يومًا حديث المرء عن رؤيته الخاصة للدين. لماذا؟ لأنني لست ملتزمًا, أصبت من الدنيا ما أصبت, بي من التقصير على مستوى العبادات ما بي, وبالتالي لست أهلًا لأتصدر حديثًا كهذا. ربما بفعل السلوكيات المُنفِّرَة والتشوهات التي صدرت ممن يتحدثون باسم الدين. وربما لأنني أراه أمرًا خاصًا, كعلاقة حب تفقد الكثير الكثير إن أصبحت كل تفاصيلها مشاعًا.
رغم ما سبق, سأتحدث: أتاح لي السجن فرصة لا أظنني كنت أستطيع تحصيلها خارج الأسوار: القرآن الكريم, قراءة القرآن في العزلة الكلية. هذه القراءة كفيلة أن تعيد ترتيب خلاياك تمامًا. أحيانًا كانوا يمنعون عنّا جميع الكتب عدا القرآن, فتقرأ, وتُعيد, وتقرأ, وتُعيد, لِتُسقِطَ من على عينيك غشاوة تلو الأخرى.
العزلة لا تعني الانفصال عن المؤثرات الخارجية فقط, العزلة برزخ بين المادة والروح, بين الدنيا والآخرة. في العزلة _خاصة إن كانت محفوفة بالقهر_ تدرك كم نحن وحيدون على هذه الأرض. أنت وقد أُبْعِدْتَ عن الجميع: أحَّبيَكَ وأعدائِكَ, وجُرِّدْتَ من كل متاع وزادِ, لم يعد معك سوى نفسك, تكاد تسمع نبض قلبك وجريان دمك.. لا خيار لك الآن سوى أن تُفتِّش داخلك بحثًا عن يقين تستند له. العزلة مخاض, من آلامه تُولد. العزلة ظلام, في حالِكِه تتسعُ حدقتاك.. لتراك.. وترى الله.
القرآن الكريم, هذا الخطاب العظيم, الراقي, الحميم الذي أنزله الله على رسوله ليَهديَه, ويهدينا بالتبعية, لنؤمن بكل كتب ورسالات الأمم السابقة. لنقبل الآخر ونحبه, لنصفح, ونعفو, ونخلص, لنتجاوز الحدود العرقية, سواسيةٌ نحن البشر, لا شعب “مختار” من الله دون الباقين. لنتجاوز الحدود الجغرافية, الله لم ينفخ في ذلك التراب أسفل قدميك لتُقَدِّسَهُ, الله نفخ في طيتك أنت, انتماؤك لتراب وطنك الصغير يجب ألا يمنعك من الانتماء للوطن الأرحب: الإنسانية. أنت مُكرَّم من العزيز, لا تقبل الذل. انت مُستخلف من العدل, حارب الظلم. فيك من روح الله القدير, فتحرك الآن, اسعْ, حاول, تدبر, اصبر, أبصِر.. ولا تنس الأمر الأول أبدًا “اقرأ”. هكذا فهمت القرآن.
هنا قابلت معظم ألوان الطيف الإسلامي, جميعهم يتحدثون بالكتاب والسنة. لا أنصب نفسي قاضيًا, ولا أرى فيها أي قدرة على تقييم الآخرين لكنني لا أملك _بعدما رأيت_ إلا أن أشير لوجود خلل ضخمٍ في قراءتهم للقرآن..
هل أمر الله بهذا؟ التقوقع على جماعتك, والانكفاء على اللحظة الحالية, النفور من تجارب وحضارات الأمم المغايرة بحجة وجود مؤامرة كونية ضدك؟! هل أمر الله بطاعة القادة دون فهم, وبرفض الآخر دون استيعاب؟! أحدهم كفّر شابًا سجينًا معه في نفس العنبر, من حركة 6إبريل, لأنه يقتني “كتبًا إلحادية” كما وصفها المُكفِّر العبقري, الذي لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتب أصلًا! أحدهم تشاجر بعنف وكاد أن يتعدى على زميل إسلامي مثله لكنه ينتمي لجماعة مختلفة, بعد خلافهما حول أذكار الصباح والمساء هل تُقال فرديًا سرًا أم جماعيًا جهرًا!
أحدهم كفَّر النظام كاملًا.. ولما رفضت ما قال وحاولت دحضه, كفّرني معهم لأنني أوالي “أنصار الطاغوت” كما وصفهم. أحدهم بعد أن كفّر الجميع, اكتشف أنه هو نفسه لم يصل للحالة المثالية التي يرضى عنها, فقال بالحرف الواحد “أنا كافرٌ مؤقتًا.. إلى أن أُتِمَ ديني”. لقد كفَّر نفسه! أي جنون هذا؟!
هذه نماذج قابلتها في نطاق الانتقال بين سجني المنصورة وطُرة. للصدق نسبتها المئوية ضئيلة. وللصدق هناك نماذج رائعة, مثقفة, ومتحضرة في طرحها للإسلام.. ولكنها أيضًا ضئيلة.. وربما أضألُ من الأولى.. إنكار وجود النماذج الأولى هو نوع من الكذب, الذي يبررونه بكون الإعلام الرسمي كفيلًا بشرح وتشهير هذه النماذج بشكل مبالغ فيه. لكن الإنكار يظل كذبًا. لا أقبل أن أشارك فيه.
كما فعلت في الواقع, سأفعل على الأوراق: سأترك هذه المهاترات وأعود إلى لُب الموضوع: القرآن. كتب التفسير المنهجية لم تساعدني كثيرًا. ساعدتني كتابات من مس القرآن روحهم فانطلقوا يكتبون في خصوصية وفرادةٍ نقيةٍ, أظنها لا توجد في أي كتاب منهجي. كمثال قوي على هذا النوع من الكتابات: كتاب “البوصلة القرآنية” لدكتور أحمد خيري العمري.
هذا الرجل لا يحشو رأس القاريء المُتعَب المُؤرَّق بإجابات لينام بعدها في خمول مُرتاحًا. إنما يفتح شهيته لمزيد من الأسئلة. لا يتاجر د.العمري في الشعارات السياسية الإسلامية الفارغة من المحتوى والقيمة التطبيقية. لا يزعم أن القرآن كتابًا سحريًا تُرَتَّلُ آياته كتعويذة لحل جميع مشاكل الكوكب التائه. هو فقط يؤكد أن قراءتك للقرآن بصدق تمنحك “بوصلة” تدلك إلى الاتجاه الصحيح, لتساعد كوكبك, الذي أمله الوحيد في التغيير هو يداك أنت ولا شيء سواهما.
د.أحمد لو قُدِّرَ لي الخروج من السجن يومًا, سأحاول التواصل معكَ وجهًا لوجهٍ, لأشكركَ صدقًا, ولأحكي لك كيف كان كتابك واحدًا من بين الكتب القليلة التي ساعدتني جدًا على التحرر من جدران السجن العالية. ولأخبرك أنني أحب هذا الكتاب. وأحبك. جدًا.
___________________________________________
* كانط “إيمانويل كانت (1724 – 1804) فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر. يعد أشهر ما تناول “التناقضات الكانطية” “Kant’s antinomies” إذ يزعم أن معرفة الله _غرض مبحث الإلهيات في علم الفلسفة_ إما تتحقق بالوحي أو بالعقل. وهو يبرهن على عجز العقل عن إدراك كل ما وراء الطبيعة وما يخص الله, في كتابه “نقد العقل الخالص” بأن أورد أربع قضايا أثبتها منطقيًا, ثم أثبت أضدادها منطقيًا. أيضا. وبالتالي يفسد الاستدلال في الحالتين, ويعلن عجز العقل.