محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – في الأُفُقِ نُورْ

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 3/26/2017

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

في الأُفُقِ نُورْ

[في الأُفُقِ نُورْ]
(1)
اسْمَحْ لي أن أحكيَ لكَ. هذا ما حدث بالضبط. منذ شهور, رئيس مباحث السجن بلهجةٍ صارمةِ فاجأ الجميع بعد أن فتح باب الزنزانة ليلًا, وطلب منا الخروج لساحة العنبر ريثما ينتهون من تفتيش زنزانتنا. الكل تعجب إذ لا تفتيشات ليلية هكذا. وابتسمتُ أنا, إذ كنت أوقن أن الله طيبٌ, وأحسُ أنه سيحقق لي رغبتي البسيطة قريبًا.
لا يُفتح الباب ليلًا للمعتقلين, إلا في حالة مرض أحدهم بشدة تستدعي الخروج وحدَه لتلقي علاج بائس من مستشفى السجن. قبل دخول “الباشا” بساعات كنتُ أسأل الله أن نخرج سويًا لنرى سماء الليل.. لنأنس لسكونه.. لنتنفس رائحته بعيدًا عن عطن الزنزانة, وقد كان. خرجنا, وانطلقت كمهرٍ انفّكَ لجامه في حقلٍ فسيح. كنت أركض حافيًا بفرحٍ طفولي يبدو غريبًا داخل مشهد تؤطره الجدران والقضبان. سرت بيننا حالة من اللعب والمرح, وبين الضباط حالة من الذهول أو الاستهجان ربما, لم أهتم. كنت أنظر للسماء, أقفز, أتنفسُ, أشكرُ الله, وأغني..
بعد الفورة الأولى, استلقيتُ أرضًا على ظهري. أطبقتُ جفني فداهمتني رغبة عنيفة أن أفتح أبواب الزنازن كلها ليشاركني جميع السجناء الانطلاق. قمتُ, ألصقت وجهي بالقضبان وأمسكتها كمن يريد ثنيها بينما أتأمل الأبواب المصفدة. لحظتها كان رفاق الزنزانة بدأوا التَحَلُّق في مجموعات ثرثرةٍ متناثرة. رغبتي تزداد إلحاحًا ولكن لا سبيل. السجن يروّض رغبات الإنسان بسياط القضبان, حتى تمسي خاضعة بشكل ما. قد يستطيع المرء أن يؤلف نغماتِ رغباته الحبيسة لحنًا رائقًا, فيصل لحالة من الصفاء الروحي لا يعرفها إلا الرهبان في صوامعهم, المتصوفون في خلواتهم وبعض السجناء في زنازنهم. وقد لا يستطيع المرء, فتندفع هذه الرغبات إلى الداخل بدلًا من الخارج وتغدو مُركّبَات كبتٍ حادة تدفع صاحبها إلى الانهيار أو التطرف. هكذا كنت أفكر عندما طلب مني أحد رفاق مجموعات الثرثرة بصوتٍ عالٍ, وبلا مقدمات “فوزي.. ألق لنا قصيدة”. أصبح مطلبًا جماعيًا في ثوان خلالها كنت قد حسمت أمري: “قد لا يكون بوسعي أن أفتح الأبواب.. لكنني سأثقب في كل جدار ثغرة”.
وقفتُ في منتصف الساحة.. ألقيت مقطعًا من الرقيم.. طلبوا المزيد.. حكيتُ لهم عن أحلام المتنبي الشاعر النبيل, واستبداد كافور الحاكم الخصي.. ثم ألقيتُ “للمُتنبي أقوالٌ أخرى”, ليبدأ الرفاق داخل زنازنهم في التجمع حول فتحات الشبابيك ونظارات الأبواب, وأسمع منهم صيحات إعجاب, طلبات مواصلة, أو.. تكبيرات! لم أفتح لهم الأبواب لينطلقوا معي كما تمنيت, لكنني لم أرضخ. الضباط أنفسهم وقفوا متأهبين منذ بدأتُ الإلقاء, وكأنني أشهرتُ سلاحًا في وجوههم.. لم أهتم بهم. فقط كنت أحاول أن أحمّل نبراتي شيئًا من سعة السماء.. من لطف النسمات.. ومن جموح الليل لأمرره للرفاق في زنازنهم. صوتي كان عاليًا يكادُ يدق الحديد قبل أن يدخل لهم, وإلقائي كان حقيقيًا كما وصفه لي بعد ذلك رفيق الرحلة وسَنَدِهَا.. مُصطفى.
في تلك الليلة, قبل أن أنام, قفزت إلى ذاكرتي الجملة التي لم تَغِبْ عنها منذ اعتُقِلْتُ. “صوتك عالي.. وما بتسكتش”. قالها لي ضابط في سلخانة التعذيب لم يشترك مع أصدقائه في حفلة اللكمات, حاول أن يلعب معي دور الودود الرحيم لينتزع من المعلومات ما عجز عنه أصدقائه. قال بعد أن يئسَ أنه متأكدٌ أن لا علاقة لي بالقضية محّل التحقيق, ولا بأي شكلٍ من أشكال العُنف أو “الشقاوة” على حد تعبيره, وأنني جئتُ هنا, ولابد أن أبقى فقط لأنَّ “صوتك عالي.. وما بتسكتش”
أكتبُ لكَ الآن وأعرفُ أن الضابطَ الودودَ, ربمَّا يقرأُ هذه الأسطر بنفسه.. اسْمَح لي أن أخاطِبُهُ: “مرحبًا بكَ مرةً أُخرى يا “باشا”. هل تذكرني؟ أنا بالطبع لم أبصر وجهكَ لأذكره أصلًا, لا أذكر عن لقائنا سوى الظلام الذي أسكَنتْنِي فيه غَمَامتُكَ.. الظلام الذي علّمني كيف أقدس النور, وأحميه, وأمررُه للرفاق داخل زنازنهم ولو على جناحي قصيدة.. آه, وبالمناسبة أودُّ أن أؤكد لك, صوتي أصبح أعلى.. وأعلى.. ولن أسكت”.
(2)
“إن مسيرة النضال هي ذاتها مسيرة المعرفة, فهي مسيرة باردة يعتريها الشعور بالوحدة والخوف من المجهول.. في حالة السجن كما في حالة الحصار, قمة النضال هي أن تبقى قادرًا على السؤال..” – ميلاد.
اليوم هو أوّل أيام عامي الرابع داخل السجن. عمري تجاوز ربع القرن بأشهر. كبرتُ. صارت لي ذاكرة تغصُ بالندوب. أعترف أنني خلال هذه السنوات مررتُ بحالاتٍ من الوهن, اهتز فيها إيماني بذاتي.. بمبادئي.. بل وبالله أحيانًا. لكنني عُدتُ. دائمًا ما أعود عبر الكتابة, الكتابة هي سؤالي, هي طريقتي الوحيدة لأسائل هذا العالم, وأتحدّاه في بحثٍ عن معنى الحق, الخير, الجمال, العدل.. والحب. الكتابة هي طريقتي الوحيدة لأنير لنفسي وللبشر من حولي طريقًا نفتش فيه معًا عن الحقيقة, بعيدًا عن منحدرات الزيف وفخاخ الصمت. إن الكلمة سرُّ هذه الحياة وسحرُها. “اقرأ”. “في البدء كانت الكلمة”. يؤمنُ البشر بهذه الحقيقة لكنهم كثيرًا ما ينسونها, ويستسلمونَ للصمتِ حين تحيطُ بهم طلقات الجنرالات المستبدين.. أذرع البنوك الأخطبوطية.. أو جدران السجونِ السميكة.
نصحني بعض أصدقائي أن أكتب عن أشياء أخرى مُنطلقًا خارج السجن, وبقيتُ أنا مُصِّرًا أن أغوص لعمق السجن أكثر قراءةً وكتابةً. أفتش عن أدب السجون دائمًا. أريدُ أن أعرف ماذا كتب هؤلاء البشر اللذين تعلقوا مثلي أحياءً في قبور, أن أعرف كيف يواجه الإنسان مصيره.. ويحمي ذاته من التآكل. للسجون جدرانٌ كالمرايا, يستطيع المرء أن يرى روحه عارية فيها بدقة متناهية. هنا تستطيع أن ترى الإنسان في نبله وخسته, في بطولته وعجزه. إن السجن تحدٍ شامل للإنسان على قدرته أن يظلّ.. إنسانًا.
يقول صديقنا ميلاد _ الذي لا أعرف إن كان شخصية حقيقية أم متخيلة, فقط استمعتُ لتسجيلٍ منقولٍ عن رسالة كتبها من سجنه, فاتخذته صديقًا, وأوردت الاقتباس في أول الفقرة من رسالته.._ يقول: “إن الكف عن الشعور بالصدمة والذهول أو بأحزان الناس ومعاناتهم, وإن تبلُّد المشاعر أمام مشاهد الفظائع كان بالنسبة لي هاجسي اليومي ومقياسي لمدى صمودي وصلابتي.. جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة, وجوهره الجسدي هو العمل, وجوهره الروحي هو الإحساس.. والإحساس بالناس وبألم البشر هو جوهر الحضارة الإنسانية, وهذا الجوهر تحديدًا هو المستهدف في حياة السجن عبر الساعاتِ, والأيام, والسنين…”
أقرأ وأكتب لأحمي هذا الجوهر من الضياع. بوسعي أن أجزم الآن أن الشعر تحديدًا طوال هذه السنوات كان كوة النور التي تحميني من فقدان هذا الجوهر. قد لا تقوى القصيدة لفتح باب أو هدم سور, وقد تظل الكلمات طيورًا مهاجرة بين سماوات القلوب لدهور دون أن تحط بعشٍ واحدٍ في وطن قائلها, لكنها دائمًا _وإن طال المدى_ تعود لأوطانها حاملة النورَ الحقيقيَّ الكفيل بتغيير هذه الأوطان.
حالًا بينما أخط لك هذه الأسطر, عادني ذكرى لقائي البعيد والوحيد معك, بعد أحد لقاءات الجمعية الوطنية للتغيير:
– طب حضرتك تفتكر العمل الثقافي أقدر وأولى في تغيير البلد ولّا العمل السياسي؟
= بص.. إن لم نشارك جميعًا في تغيير الأوضاع السياسية لمصر ستبقى كل محاولات
البناء
الثقافي كالحفر في الماء والنحت في الهواء. لازم الثقافة, الفن, الأدب والشعر يشاركوا في
التغيير دا.. بجدية.
صاحب الإجابة كنت أنتَ الشاعر عبد الرحمن يوسف, منذ ست سنوات, في نهاية عام 2010 تقريبًا, وصاحب السؤال كنتُ أنا, أو للدقة ذلك الفتى في عامه التاسع عشر والذي شاركتَ أنتَ بشعرك وبتواجدك السياسي في تشكيل وجدانِهِ. سألتُكَ. أجبتني. ذهبتُ بعدها وجوابك مُحلقٌ في ذاكرتي.. أذكره جيدًا.. أذكر ابتسامتك.. نبرة صوتك المشعة بالأمل رغم ما كانت تعانيه مصر.. كما وأذكر جدًا القصيدة التي ألقيتَها أنتَ يومئذٍ “في الأُفقِ نور”.
لم أكن أتخيل أن السنوات ستمر خطفًا هكذا, وأنك بنفسك من ستكتب لي مقدمة ديواني الأول. فرحتُ بحقٍ عندما قرأتُ المقدمة.. وقررتُ أن أكتب لك لأحكي بعضًا مما نعايشه بالداخل, حكيتُ ليلة التفتيش تلك تحديدًا لأني أحبها, ولأنها _لسبب ما لا أعرفه_ مرتبطةٌ في ذاكرتي بِكَ.
أستاذ عبد الرحمن يوسف, هل تسمح هذه الذاكرة المشتركة بيننا أن أُبدِّلَ النداءَ فأقول “صديقي”؟ صديقي القريب رغم الأسوار والمسافات أشكُركَ.
أشكركَ لأنَّكَ مازلتَ حُرًّا وثائرًا كما عرفتك دومًا. وأشكُركَ لكلماتِكَ الراقية في مقدمة الرقيم. وأعاهدك أنني هاهنا في أحلك بُقعَةٍ من الظلام الذي يُحيطُ أوطاننا سأبقي القصيدة في ضلوعي سراجًا.. لا يستطيعُ السجَّان إطفاءَهُ أبدًا. وسأبقى رغم كل هذا الظلام أؤمن معَكَ دائمًا أنَّهُ “في الأُفُقِ نُور”.
مارس 2017