احمد طارق ابراهيم (ارنوب) – 2/3/2019 – السبت

احمد طارق ابراهيم (ارنوب) – 2/3/2019 – السبت

اسم السجين (اسم الشهرة) : احمد طارق ابراهيم (ارنوب)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 3/2/2019

السن وقت الاحتجاز: غير معلوم

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: مونتير

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

2/3/2019 – السبت

حوالى التاسعة صباحاً من سبت الإسبوع الماضى، كنت أقف ومعى أكثر من خمسين سجيناً آخر فى طابور مستقيم أمام بوابة السجن، تنتظرنا عربة الترحيلات خارج البوابة مباشرة لتنقلنا إلى مكان إنعقاد جلسة النظر فى تجديد الحبس الإحتياطى، كانت السماء فوقنا بلا أسلاك، وكنت أحن إلى رؤيتها هكذا، فالحنين دائماً يهفو إلى الغائب، إذا ورد الغائب سكن الحنين، لكن ما جرى لى عجيب، كلما أحدقت البصر إشتقت أكثر، وفى كل مرة أنظر فيها ألقى الفقد، كانت أيادينا ممددة إستعدآ للتقييد بعد أن انتهى المخبرين من تفتيشنا، مددت يدى للقيد وفى قلبى غضب يتعذر الإفصاح عنه، كرهت القيد ويئست الأمر برمته، وتولد من الكره واليأس أمل، مجرد أمل، أمل لن يغير فى مجرى الأمور شيئاً، لكنه جعلنى أتغاضى عن ضيق القيود بيدى، وتساءلت، لماذا نكبل بالحديد أصلاً داخل عربة الترحيلات ؟ فكالعادة نُفتش بعناية قبل خروجنا من السجن، وكالعادة نُمنع من إصطحاب أى شئ عدا المياه والسجائر، ثم تكبل أيادينا ونركب عربة الترحيلات المصفحة المغلقة شبابيكها بالحديد، ومعنا فى نفس العربة شاويشين يقومون على حراستنا، بيننا وبينهم باب، الباب حديد ومغلق ولا يفتح إلا من الخارج، وحول العربة حراسة من مدرعتين وبوكس وعربة (أتارى) مصفحة وعربة أخرى، والكثير من الدراجات النارية، ويقوم على هذه المأمورية لواء شرطة معه رتباً عديدة من الضباط، فلماذا نكبل داخل العربة ؟ هل يمكننا الهرب ؟ ولماذا كالعادة يضيق هذا الأمين قفل القيد على يدى ؟ الأمر كله عبثى لم أطلب كالعادة توسيع القيد الذى شد معصمى، وفكرت فى أنه ربما … ربنا ستكون تلك هى جلستى الأخيره، ضاق صدرى بصدرى من هذا الأمر المفاجئ، حاولت مجاهدته، غلبته وغلبنى، لكنى لم أستطع مفارقته.

أفقت من خواطرى داخل العربة مع باقى السجينات والسجناء، وكالعادة يتبادلون أحاديث مكررة، يسّبون نفس الأشخاص، يغنون الأغانى الدينية المبتذلة ذاتها، والتى سمعتها منهم على مدار عام كامل، وكالعادة أيضاً لم أشاركهم الغناء، وقعت عيناى على هذا المسجون الذى أعرف أنه ممنوع من الزيارة منذ اليوم الأول كغيره من السجينات والسجناء أصحاب القضايا الخطرة، وأعلم أن هذا المسجون لم يرَ أبناءه وأمه وإمرأته لأكثر من عامين، وتمنيت ألا يكون فى إنتظاره أحداً ما، فقد جرت العادة أن يصطف أهل هؤلاء السجينات والسجناء فى الطريق من السجن وحتى مكان إنعقاد الجلسات، ونتظر السجينات والسجناء من شباك العربة المغطى بالسلك الحديدى، فيراهم ولا يروه، ينادى عليهم فيسمعونه ويركضون خلف العربة متتبعين صوت طالما أحبوه، متبادلين كلمات شجية حنونة، وغالباً ما يصعب سماع أكثر من كلمة أو كلمتين بسبب علو صوت (الكلاكسات) وتنتهى المحادثة بأن تركض الأم أو الزوجة خلف العربة إلى أن تسقط على الأرض ويبكى صاحبنا ويبكى معه الجميع، تمنيت ألا يحدث هذا ولو هذه المرة فقط، لكنه كالعادة حدث وكالعادة قطع البكاء بعض الهمهمات (حسبى الله ونعم الوكيل)، (ربنا ينتقم من الظالم)، (أصبر وإحتسب)، أتعذر النطق وأن جال فى خاطرى أنهم جعلوا منا غائبين، فالمسجون به حنين إلى كل شئ، حنين لا ينتهى، حنين إلى المفقود، إلى زمن ليس فى المتناول، إلى رؤية محبوب غائب، إلى لحظة لم تبق سواها من سنين عديدة، إلى رائحة عبرت حواسنا فى زمن مضى، إلى وقفة عند ناصية، إلى حفيف فستان، إلى مذاق طعام ألفنا طاهيه، إلى ممشى فى شارع، إلى ظل شخص أو ظل مكان، إلى رائحة بساط عتيق، إلى جلسة ود إنتهى وما عاده، أرجع من شرودى هذا، وما زالوا مستأنفين أغانيهم التعة … يا للبؤس ! ما هذا التكرار اللانهائى ؟
وصلنا معهد أمناء الشركة (مكان إنعقاد الجلسة) نُفتش مرة أخرى، وحولى العديد من العساكر بشكل دائرى وفى حالة تأهب، ضحكت فى نفسى، هل يعتقدون أنّا خطرين حقاً ؟ فكرت أن ألقى بكلمة داعبة وربما فكرت فى أن أتأسف لهم على أننا سبب تكديرتهم هذه، لكن منعتنى نظراتهم العدائية، كرهتها، لمَ ينظروا إلىّ وكأنى وحش ؟ وكأنى إرهابى حقاً ؟ لقد أحببت تلك البلد فلماذا تتنصل من حبى وتعادينى ؟ مقتُ نظراتهم وأشحت بوجهى بعيداً إلى أن ينتهى المخبر من تفتيشى، وقد إنتهى بالفعل، وذهبت لأُفتش مرة أخرى بجهاز كشف المعادن، وجد معى قداحة وأخذها المخبر منى، سألته عن السبب، لم يرد، ولم ألح عليه، حسناً، لا يهم، خذها، لقد راودنى الأمل مرة أخرى فى أنه ربما ستكون تلك هى المرة الأخيرة، وضعت سيجارة فى فمى وطلبت منه إشعال هذه فقط، ففعل وشكرته ثم أعطيته القداحة.
دلفت القاعة، وكالعادة المئات من الإسلاميين وآخرين، أبحث دائماً عن الآخرين لتمضية اليوم وتمرير الوقت، ألمح نبيه صديقى ومحامىّ، وأحاول أن ألفت أنظاره بإشاراتى فنحن فى قفص حديدى، القفص محاط بزجاج مانع لإنتقال الصوت والزجاج محاط بقفص حديدى آخر، فبينى وبين نبيه حواجز، لكنه يرانى ونحاول تبادل بعض الكلمات، أية كلمات، لكن غالباً ما نفشل، يزعجنى دائماً هذا الزجاج، يشعرنى بأننا قرود، وهنا مقام حزن لن أصرح به لكنى سمعت أحدهم يتلو من خلفى ((ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة )) وأتلو فى سرى (( يا مالك ليقضى علينا ربك )) حسناً حسناً لا ضير، ربما ستكون الجلسة الأخيرة وسأرى نبيه، سأعاتبه على أشياء وأشكره على أخرى، لكنى كنت أود أن أخبره بأن يذكر للقاضى القنوات والشركات والإعلانات التلفزيونية التى عملت بها وأننى متهم بالنشر ولم ينشر شئ، لكنه يطمأننى فأبتسم.
يصل القاضى ويترافع عنى المحامون ولا يصلنى شئ سوى بعض الإيماءات والحركات الجسدية، فأتساءل لو سمعت صوت نبيه سأعرفه ؟ فالأصوات أول ما يستلم للنسيان، ثم تتبعها العادات الصغيرة، كطريقة النظر إلى الموجودات وحركة الأيدى ولوازم الحديث، ثم هيئة الضحك والإطراق عند التفكير وجوهر الحضور، أتابع المرافعة، وكالعادة لا تستمر لأكثر من دقيقتين، فأحزن لحال هؤلاء المحامون، فهم يضيعوا ما تعلمون أدراج الريح، والمفترض أن يقرأ المحامى القضية ويحاول يجاد ثغرات قانونية، وعلى هذا الأساس يحاول تبرئة موكله، لكن ما الذى سيفعله أية محامى فى دقيقة ؟ ماذا سيقول ؟ القاضى نفسه لم يرانى، لم يلحظنى حتى، هل بمرور الزمن سنسى هؤلاء المحامون أصول المهنة ؟ وهل سيرانى القاضى؟ لكننى أُمنى نفسى بشئ من العدل وبعض الأمال، تنفضى الجلسة كالعادة بمزاج سئ، ونخرج من القاعة، نُفتش، نُكبل، نركب عربة الترحيلات، يُغنون، نصل السجن، تُنتزع القيود من معاصمنا، نُفتش مرة أخرى، نوزع على عنابرنا ويخف الأمل بداخلى.
أهل الزنزانة، يستقبلنى حسن البنا بقلب وجل (هــــاه؟)، (معرفش يا حسن بس شكلها تجديد زى كل مرة) يربت على كتفى ويطمأننى (خير ياسطى، هتخرج المرة دى) أبتسم له وأن تلوت فى سرى ((قال فما خطبك يا سامرى، قال بصرت بما لم يبصروا به)) ثم أذهب للنوم، وأعلم فى اليوم التالى – فى الزيارة – من أبى أنه تم تجيدد حبسى كالعادة وكالعادة وكالعادة وكالعادة وكالعادة …. ؟ أنظر إلى وجه أمى فى نهاية الزيارة، فأستمد منه حزن شجى وآلم مروع وقوة وقدرة على الإحتمال لا قبل لى بها، فأحتضنها شاكراً ضعيفا، فالسلام عليك يا أمى وعلى وجهك الحانى، السلام على الأيام الرواحل والأعمار المنقضية، السلام على أبى وأختى، السلام على البسمة الحانية والأنة الشاكية والثرى الذى إحتوى، السلام على الدهر المحى المهلك، السلام على قوتنا وضعفنا وعلى اللحظات التى لا يمكن إستعادتها أبداً، السلام علينا وعليكم … السلام .
أحمد طارق إبراهيم
(أرنـوب)
من السجن