اسم السجين (اسم الشهرة) : شريف ابو المجد
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : شهر أبريل من عام 2015
السن وقت الاحتجاز: 65 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: عضو هيئة تدريس بكلية هندسة المطرية بجامعة حلوان
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة
ملاحظة: لم يتم التوصل لتاريخ تحرير أو نشر الرسالة بالتحديد خلال العام المدرجة خلاله، وتم افتراض إدراجها بتاريخ آخر يوم في العام أو الشهر -إن حدد- لأغراض تقنية.
كن جديراً بالثقة
يقول دانيال جولمان في كتابه ” الذكاء العاطفي ” – وهو من أهم الكتب التي ظهرت في العشرين سنة الأخيرة وأكثرها مبيعاً – أن نجاحنا في الحياة يعتمد على الذكاء العاطفي بأكثر مما يعتمد على الذكاء الحسابي – والذي يقيسه إختبار حاصل الذكاء (IQ) , وفي بداية السلم الوظيفي يكون الذكاء العاطفي أهم مرتين من الذكاء الحسابي , أما في المستويات الإدارية الوسطى فيكون أهم بمقدار أربع أو خمس مرات , وفي مستويات الإدارة العليا ورئاسة الشركات والمنظمات فتفوق أهمية الذكاء العاطفي لدى الناجحين في أعمالهم أهمية الذكاء الحسابي بمقدار من عشرة إلى عشرين ضعفا , ولذلك أصبح عالم الأعمال شديد الإهتمام بقياس هذا الذكاء في المتقدمين لشغل أي وظيفة – وبالذات وظائف الإدارة العليا – باختبار أصبح يعرف بالرمز (EQ) (Emotional Quality).
فما هو الذكاء العاطفي هذا ؟ وهل يمكن تحسينه والتدريب عليه ؟
الذكاء العاطفي باختصار هو إدارة مشاعرنا بذكاء , ويبدأ بإدراك هذه المشاعر وأسبابها وتأثيرها علينا وعلى الغير , ثم يمر على التحكم في هذه المشاعر وعدم تركها لتتحكم فينا , وينتهي بقدرتنا – عاطفيا – على تحفيز أنفسنا لتحقيق أهدافنا مهما كانت الصعوبات التي تواجهنا , وهذا هو الجانب الشخصي في الذكاء العاطفي , أما الجانب الإجتماعي فيبدأ بحسن فهم الآخرين بالإنصات إليهم بتعاطف , وفهم رسائلهم غير اللفظية , وينتهي بجدارات الذكاء الإجتماعي الثمانية : التأثير / والتواصل / وإدارة النزاع / والقيادة / وأن تكون محفزا للتغيير/ وبناء الروابط / والتعاون والتآزر / والقدرة على العمل في مجموعة ، الذكاء العاطفي عند جولمان خمسة وعشرون جداره.
فما هي الجدارات ؟
الجدارات مثلها مثل المهارات ولكنها ليست ظاهرة كالمهارات وإنما يظهر منها تأثيرها , وهي نوع من السمات الشخصية التي تميز شخصا عن آخر , واستكمالا لتعريف الذكاء العاطفي فهو كما بيَّن له ركنان : شخصي واجتماعي , الركن الشخصي له ثلاث جوانب : الأول حسن إدراك الذات , وله ثلاث جدارات منها الثقة بالنفس , والثاني التحكم في الذات وله خمس جدارات منها الجدارة بالثقة وجدارة تحمل المسئولية , والثالث القدرة على تحفيز الذات وله أربع جدارات ومنها أن تدفع نفسك دائما للإنجاز مع المبادرة في العمل وأن تسلك دائما أمثل السبل .
والركن الإجتماعي وله جانبان : حسن فهم الآخرين والتعاطف معهم وله خمس جدارات ، ثم جدارات الذكاء الاجتماعي الثمانية التي ذكرناها سابقا , إذاً مجموع هذه الجدارات كلها خمس وعشرون جدارة , ولا يحتاج المرء إلا إلى نصفها حسب نوع الوظيفة التي يؤديها , فكل وظيفة تحتاج من 12-15 جدارة , ولو تحصَّل المرء على عشر جدارات منها لأصبح نجماً من نجوم الأداء , ولا يكون أدائه جيدا إلا إذا كان لديه ست جدارات منها على الأقل , وهذه الجدارات يمكن قياسها بدقة باختبار (EQ), ويمكن تحسينها بالتدريب والخبرة كثيرا , وهي في هذه الناحية مختلفة عن الذكاء الحسابي الذي لا يتحسن كثيرا بالتدريب , فاختبار حاصل الذكاء (IQ) الذي إفتتن الأمريكيون به منذ عشرينات القرن الماضي – تتراوح درجاته ما بين 100-120 للذكاء المتوسط , ومن 120 – 140 للذكاء الجيد , وفوق 140 للذكاء العالي , وصولاً إلى الذكاء الخارق فوق 160, ونتيجة حاصل الذكاء لا يمكن للمرء تحسينها إلا في حدود 10% مهما تدرب أو قرأ , أما جدارات الذكاء العاطفي فيمكن اكتسابها إذا لم تكن موجودة , ويمكن تحسينها على مدى سنوات العمر واكتساب الخبرة , وهذا ما يسمى بالنضج , ويمكن التدريب عليها ( بل ويجب التدريب عليها ) وتحسينها تحسينا كبيرا , لأن نجاحنا في الحياه يعتمد عليها , وهذا ليس رأي دانييل جولمان , ولكنه نتيجة دراسات على عشرات الألاف من العاملين في مختلف الشركات , والذين في مختلف المستويات الإدارية في مختلف بلاد العالم .
وهنا نقطة لا بد من تسجيلها قبل المضي قدما في ما أنتويه من كتابة هذا المقال , وهي كيفية استقبال الشعوب الحية للجديد في العلم , فقد صدر كتاب الذكاء العاطفي سنة 1990 ,ثم اتبعه جولمان بكتاب العمل بالذكاء العاطفي سنة 1998 , وكتب في مقدمة الطبعة الخامسة للكتاب الأول – بعد عشر سنوات من صدور الطبعة الأولى – أنه مذهول من رد الفعل الذي أحدثه كتابه , وبالذات في مجالين هما التعليم وعالم الأعمال , ففي التعليم بادرت كثير من المدارس إلى تدريس الذكاء العاطفي طالما أنه هو الذي سيفرِّق بين الناجحين في الحياه العملية وبين الأقل نجاحاً , ووضعت الإدارة التعليمية في ولاية مثل ولاية إلينوي الأمريكية توجيهات إرشادية عما يمكن أن يدرِّس في بداية المرحلة الإبتدائية (من مستوى (1) إلى مستوى (6)) وما يمكن أن يدرِّس في الثلاث مستويات التالية (المرحلة الإعدادية عندنا) , وما الذي يمكن أن يدرس في الثلاث مستويات التي تليها ( مرحلة الثانوي ) من جدارات الذكاء العاطفي .
ولكن ما أذهل المؤلف حقيقة هو سرعة إدراك عالم الأعمال لأهمية هذا الذكاء العاطفي للنجاح في الحياة العملية , وبالذات في الأوقات التي يكون فيها التغيير سريعا وشاملا وحادا , مثل ما يحدث في سوق الأعمال عالمياً منذ نهاية السبعينات , بحيث أنه سرعان ما بدأت الشركات والمنظمات في عمل إختبارات ذكاء عاطفي (EQ) ، ليس للمتقدمين للعمل فيها فحسب وإنما لكل من سيتم ترقيته كذلك , حتى يعرف هو نقاط قوته ونقاط ضعفه فيعمل على تحسينها , وليعرف كذلك صاحب العمل أو رئيسه في العمل هذه النقاط , فيُحسن إستغلال نقاط القوة بوضعه في الوظيفة التي تعظم استخدامها , ويعمل مع الموظف على تحسين نقاط ضعفه أو على الأقل السيطرة عليها حتى لا يضعف الأداء العام للشركة أو المنظمة , لأن البقاء في السوق أصبح للأفضل أداءا , ولم بعد هناك مكان لمتوسطي الأداء .
فأين شعوب العالم النائم من هذه الشعوب الحية التي أدركت أهمية الذكاء العاطفي وتحركت بسرعة كبيرة بحيث أنه في خلال عشر سنوات أصبحت جدارته تدرس في المدارس , وتقاس عند الإلتحاق بالعمل وعند الترقية .
ما هو موقف شعوب العالم النائم ؟
كم منا سمع عن الذكاء العاطفي وأدرك أهميته ؟ وكم هي نسبة المدارس التي بدأت في تدريسه ؟ وكم نسبة الشركات والمنظمات التي تقيس هذا الذكاء لدى موظفيها ؟ وبالذات عند الترقية لمستويات الإدارة العليا , حيث تصبح أهميته عشرة أو عشرين ضعف الذكاء الحسابي (IQ) , أشهد أنني رأيت من ست سنوات إختبارا أجري لأفضل خمسة متقدمين لشغل وظيفة مدير مشروعات في شركة بن لادن بالسعودية , وهو إختبار كان يقيس الذكاءات السبع : الإثنان اللذان نتعلمهما في المدارس والجامعة وهما الذكاء الحسابي (IQ) والقدرات اللغوية والخمسة الخاصة بالذكاء العاطفي , وكذلك أخبرني مدير عام بشركة عبد اللطيف جميل ( تويوتا السعودية ) أن شركته تستأجر شركة أمريكية لعمل هذه الإختبارات لمن سيتم ترقيتهم .
ولكن استئجار شركة أمريكية لعقد اختبارات الذكاء العاطفي شئ , واهتمام المجتمع كله بها تدريسا وتوظيفاً لزيادة فرص النجاح شئ آخر , عموما نتمنى أن تفيق مجنمعاتنا العربية من غفلتها , وألا يصدق فيها قول جولدا مائير “العرب لا يقرأون , وإذا قرأوا لا يفهمون , وإذا فهموا لا يعملون بما فهموه”.
والآن عودة إلى الجدارة التي نحن بصددها في هذا المقال وهي الجدارة بالثقة , فما معنى الجدارة بالثقة ؟ وكيف تكون جديراً بثقة كل من يتعامل معك ، أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال سهلة , لأن موضوع الذكاء العاطفي برمَّته ليس جديداً كلية , وإنما ترتيب الأمور وعرضها هو الجديد , ولكن من قديم الزمن وفي مختلف الحضارات والثقافات من المعروف أن النجاح في العمل – وفي الحياه عموما – يحتاج إلى أمور من أهمها أن تكون جديرا بالثقة , فكيف تكون جديرا بالثقة , أولا أن تتحلى بعكس صفات المنافق , فالمنافق فيه أربع خصال ” إذا وعد أخلف , وإذا حدث كذب , وإذا خاصم فجر , وإذا ائتمن خان ” ، كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ” أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً , ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها , إذا حدث كذب , وإذا ائتمن خان , وإذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر ” , وبذلك تكون الجدارة بالثقة نابعة من :
الوفاء بالوعد , والصدق في الحديث , والإنصاف عند الخصومة , والأمانة والبعد عن كل صور الخيانة .
وإسلامنا يهتم كثيراً بهذه الخصال والأخلاق المؤدية إليها , لأنه كما قال الرسول الكريم صلى لله عليه وسلم عن مهمته التي بعث من أجلها ” إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ” ( رواه مالك )
ويقول الله تعالى عن هذه الخصال الأربعة :
الأولى ” وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا ” (الإسراء :34)
والثانية ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين” (التوبة :119)
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ” إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ” (رواه البخاري)
الثالثة ” ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ” (المائدة :8)
وعن الرابعة : يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ” أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ” (رواه الشيخان)
ويقول الله تعالى ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً ” (النساء :58)
فهل هذه الخصال الأربعة فقط هي التي تجعل الإنسان جديراً بالثقة ؟
لا, فهناك صفات أخرى مهمة مثل أن يصدَّق قولك عملك , يقول الله تعالى ” { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (سورة الصف 2 – 3) , ولذا يقول علماؤنا الأجلاء إن عمل رجل في ألف رجل خير من مقالة ألف رجل لرجل , فالأهم من النصح والوعظ من أن يكون حالك مصدقا لما تنصح به , ولذلك يقول نبي الله شعيب في سورة هود ” وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ” ، فلا يعقل أن يأمر المصلح الناس بالبر ولا يأتيه أو ينهاهم عن المنكر ويأتيه , وكذلك الرجل / المرأة الجدير بالثقة .
وكذلك من صفات الجدير بالثقة أن يكون ثابتاً على الحق , كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ) “رواه الشيخان” , وأن يكون له كود قائم على المبادئ لا يخالفها قط , حتى لو أدى ذلك إلى فقده لوظيفته , أما الذي يتلون ويغيير مبادئه حسب مصالحه وحسب اتجاه الريح فليس جديراً بالثقة , والثبات على الحق والعيش وفقاً للمبادئ لخَّصته آية في سورة الأحزاب ” { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (الآية 23).
ويقول علماء التفسير أن كلمة رجال هنا تعني صفة الرجولة ولا تعني الذكورة , وإنما تنطبق على الرجال والنساء الذين لديهم هذه الصفة , فلكي تكون جديرا بالثقة فلا بد أن تكون رجلا بكل معنى الكلمة في أصعب المواقف , والرجال قليلون في هذا الزمان .
هذه بعض الصفات لكون المرء جدير بالثقة , فكيف ننمي هذه الجدارة لدينا ولدى أولادنا في المقام الأول ، لا شك أن إسلامنا هو السبيل إلى ذلك , فكل الخصال والسمات التي يحتاجها المرء لكي يكون جديرا بالثقة ليست موجودة في الإسلام فحسب , وإنما الإسلام يحث عليها حثاً ويحض عليها حضاً , ولكن لا بد أن ننبه هنا أنه ليس بالكلام وحده يصل المرء إلى أن يكون جديرا بالثقة , ولكنه يجب أن يحيا بهذه الصفات السبعة التي ذكرناها , ولا يحيد عنها قط , لأن الجدارة بالثقة يصعب إكتسابها ويسهل جدا فقدها عن أول حيود عنها , فيقول جولمان في هذا أن الخطأ الذي يرتكبه مندوبو المبيعات وكثير من العاملين في شركات الخدمات هو أنهم يظنون أنهم يمكن أن ينجحوا عن طريق الخديعة , فيستعملون مهاراتهم في الكلام والإقناع في تمرير صفقات يخدعون فيها بعض العملاء, وعندنا ناس تسمي هذا ” شطارة في البيع ” ولكن جولمان يقول أن هذه إستراتيجية سيئة فقد تنجح في المدى القصير , أما إذا أراد مندوب المبيعات أو شركة الخدمات أن يكون لهم عملاء دائمون فلا بد أن يحافظوا على مبادئ الأمانة والنزاهة والوفاء بالوعد والتعهدات , هذه هي الإستراتيجية التي تضمن النجاح على المدى الطويل.
وحتى لو أخذنا الأمور من الوجهه المادية البحتة , ومن وجهة نظر ” أن العمل هو العمل ” (business is business) فإن الجدارة بالثقة بكل صفاتها السبعة هي التي تؤدي للنجاح على المدى الطويل , أما الشطارة ومحاولة الخديعة والكلام المعسول فكل هذا لا يؤدي إلا إلى نجاحات قصيرة لا تدوم , وعندما كان هناك يهود في مصر كان كبار رجال الأعمال من اليهود – مثل صيدناوي وشيكوريل وحلاوة – وكان معروفاً عنهم أن كلمتهم أقوى من أي عقد , لماذا ؟ لأن اليهود يعرفون أن الوفاء بالكلمة هو سر النجاح في السوق , لأنه صفة من الصفات التي تجعلهم جديرون بالثقة , ليس هذا فقط وإنما كانوا حريصين أشد الحرص على الصدق مع العميل , وعدم محاولة خديعته بأي شكل , ولا حتى زيادة السعر عن عميل آخر , وعندما كان أحد الباشاوات يطلب هدية من المجوهرات لزوجته في عيد ميلادها كانوا يرسلون تشكيلة من المجوهرات , ويتركونها دون إيصال ثقة منهم في عملائهم , ولذا كان العملاء يعاملون هذه الثقة بثقة مقابلة .
فالجدارة بالثقة هامة للنجاح في العمل من وجهة النظر الإسلامية ومن وجهة نظر السوق الذي يعلي قيمة التاجر الصدوق الأمين حتى ولو لم يكن مسلماً , أما الغش التجاري أو موضوع أن السوق سوق سعر , أي أن تخفيض ثمن السلعة ممكن بتخفيض جودتها ومواصفاتها دون إعلان ذلك للمستهلك فسوف يؤدي إلى فقد ” السمعة” , والسمعة هي الوجه الآخر من وجهي العملة , إذا كان وجهها الأول هو الجدارة بالثقة , فالموظف – وليس التاجر فحسب – الذي تسبقه سمعته إلى وظيفته الجديدة في شركة من الشركات يسهل عليه إدارة العاملين معه , لأنه يبدأ بداية قوية حيث يضعه هؤلاء العاملين في موضع عال لأن سمعته في عمله السابق سبقته إلى عمله الجديد
فهل الجدارة بالثقة والسمعة الحسنة مطلوبتان في مجال الأعمال فقط ؟ , الحقيقة أنهما مطلوبتان في مجال الدعوة أكثر , فكما ذكرنا لا يمكن أن يأمر الداعية الناس بالمعروف ولا يأتيه أو ينهاهم عن المنكر ويأتيه , لأن ذلك سيقوض مصداقيته لدى الناس , وهذه المصداقية هي الوجه الثالث للعملة , فالجدارة والسمعة الطيبة والمصداقية هي ثلاث أوجه للعملة (إذا كان يمكن أن يكون للعملة ثلاث أوجه !!) .
وقد كانت أهم صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عند قومه أنه الصادق الأمين , ولم يكن يشك عتاولة المشركين في صدقه ولكنه الكبر الذي صرفهم عن الاستجابة له , كما قال الله تعالى ” ولكنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ” ( الأنعام:33) , فالصدق والأمانة يجب أن تتوفر لدى الداعية وأن يشيع ذلك بين الناس , بحيث تصبح سمعته أنه الصادق الأمين ، وهذا مهم جداً , لأن هذه هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة , يقول الله تعالى في آخر سورة يوسف مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ” قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ” ( يوسف : 108) , فسبيل رسول الله في الدعوة هو الصدق والأمانة) ، وهما أهم صفتان فيمن يريد أن يكون جديراً بالثقة.
ثم يقول الله تعالى ممتدحاً رسوله إسماعيل ” … إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً ” ( مريم:54) , وهي صفة أخرى للدعاه الجديرين بالثقة , ثم يصف الله تعالى نبيا آخر وهو سيدنا موسى ” واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً ” وهي صفة رابعة في الدعاه الجديرين بالثقة , ويقول سبحانه وتعالى واصفا ثبات سيدنا نوح وإصراره في سورة نوح ” { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا } (سورة نوح 5 – 9) ” فانظر إلى الثبات على الحق والإصرار عليه , رغم أنه كان يُحكى عنه ( عليه وعلى نبينا السلام ) أن الرجل من قومه كان إذا حضره الموت يطلب من أبنائه أن يحملوه إلى سيدنا نوح ثم يوصيهم أمامه ألا يؤمنوا به بعد أن يموت أبدا , ومع ذلك ظل سيدنا نوح ثابتا على الحق تسعمائة وخمسن سنة , فإذا لم يكن هذا هو الثبات فما هو ؟
نسأل الله أن يرزق الدعوة برجال ( ذكوراً وإناثاً ) جديرين بالثقة , سمعتهم طيبة , ولهم مصداقية عالية , هؤلاء الذين يصدقون الله ما عاهدوه عليه ولا يبدلوا تبديلا , هؤلاء الذين لا يقولون ما لا يفعلون ولا يحتالون , ولا يبررون فشلهم بالظروف , وليس عندهم أن الغاية تبرر الوسيلة , ولكن لا بد أن تكون الغاية والوسيلة كلتاهما شرعيتان , ومهما طال الوقت يثبتون على الحق أمام العواصف العاتية وأمام الظلم الافدح , ولا يغيرون ولا يتغيرون ولا يبدلون ولا يحرفون وعلى العهد ثابتون ، يعضون على جذع الشجرة مهما تغير الناس ولا يزيغون عن الحق أبدا ، على أمثال هؤلاء – وليس على أمثالنا – يتنزل النصر ويتحقق التمكين .
ولذلك لا بد من العمل على إيجاد هؤلاء الجديرون بالثقة وزيادة عددهم في المجتمع ، مع تسليط الضوء عليهم ليكونوا قدوة لغيرهم , ولكي يتم ذلك لا بد أن نمضي في عدة خطوات متوازية :
أولا : تربية النشء على هذه الصفات السبعة , والتربية هي : مربي ومتربي ومنهج تربوي ومحضن تتم التربية فيه , والتربية هنا لا بد لها من قدوة صالحة , فلا يركز الإعلام على الفنانين والفنانات ولاعبي الكرة , وإنما يركز على نماذج الناس الجديرين بالثقة وما أكثرهم .
ثانيا : متابعة من تم تربيتهم وظيفيا , للتأكد من أنهم يطبِّقون ما تربوا عليه , وأنهم صامدون أمام الإغراء أو الضغوط .
ثالثاً : دعم الصفات الخلقية السبعة اللازمة لوصول المرء إلى أن يكون جديرا بالثقة , ودعمها يكون بالتركيز عليها في التربية الخلقية في المدرسة ثم الجامعة , ثم التركيز عليها في الإعلام , والإحتفاء بالنماذج الناجحة من الذين أظهروا مستوى مرتفعا من الجدارة بالثقة , والسعي إلى إختيارهم دائما في الوظائف الإدارية العليا.
رابعاً : محاربة كل ما من شأنه تشكيل ضغوط سيئة وإغراءات مدمرة تؤدي إلى إنحراف البعض , وتعرض البعض الآخر لشبهة الخضوع للضغوط أو الإغراء ، أي مطلوب جهد جماعي من الدولة ومن المدرسة ومن البيت .
وكما أسلفنا فإنا تفشي ظاهرة الجدارة بالثقة هام جداً لنجاح الناس في الحياة وفي العمل , وهذه الجدارة هامة بنفس القدر للنجاح داخل الأسرة , لأن المرأة تحتاج إلى من يكتسب ثقتها ثم حبها , ولا يمكن أن ينجح الزوج أمام زوجته وأولاده إذا كان لا يحصل على ثقتهم الكاملة , وكذلك فالثقة بالدولة ككل أو على الأقل بشركاتها ومؤسساتها الكبرى ضروري للنهضة , وهو الذي سيجذب رؤس الأموال الخليجية والدولية .
نسأل الله أن يمنحنا هذه الجدارة , ويساعدنا على تنميتها في أنفسنا وأولادنا وأن يجعلنا نتأسى بأكثر أهل الأرض جدارة بالثقة صلى الله عليه وسلم ، وأن يجعلنا دائماً نختار الجديرين بالثقة في الوظائف العامة العليا اللهم آمين .
أ.د/ شريف أبو المجد
سجن استئناف طرة أبريل 2015