اسم السجين (اسم الشهرة) : عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 8/26/2016
السن وقت الاحتجاز: 18 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون/تأهيل وادي النطرون
قضية أرقتني وشغلتني
قضية أرقتني وشغلتني وآلمتني أثناء بحثي لها طوال الأعوام الثلاثة الماضية، التي خلالها تعرضت بإلحاح واستمرار إلى القبح والظلام اللذين يكتنفان هذا الكوكب التعيس، واحتككت وبشدة بكل الطبائع البشرية ودرجات الفهم ومستويات العقليات، وقرأت وبتوسع في كتب الفكر والتاريخ والفلسفة والروايات التي تتناول الموضوع، لمختلف الكتاب أصحاب الأيديولوجيات والأفكار والعقائد المختلفة، ووصلت للآتي: “هذا الكوكب، في مجمله، مكانٌ مظلم”.
ظننت قبل السجن أنى أعيش في بلد فاسد، وإذا بي خلال تجربتي أفاجأ أنى أعيش في كوكب فاسد، قرأت عن النظم العالمية والهيمنة والحروب والآليات القذرة التي تنتجها الدول لتعلو على بعضها، وأساليب الابتزاز البشعة التي تسيطر بها دول على دول بأسرها، وغسيل الدماغ المنظم لا لشعبِ دولةٍ، بل لسكان كوكب بأكمله! حتى صدمتني الحقيقة المروعة.. وهو أنا.. كلنا -وأنا أول شخص- نعيش وهماً عظيماً ولا نفهم شيئاً مما يجري حولنا..
وأني وبعد كل هذا البحث المضني، كان أقيَم شيء وصلت إليه هو إدراك أني أعيش هذا الوهم فقط، وما زال أمامي طريق طويل لأصل إلى كنهه وطبيعته.. ثم بعد هذا الفساد.. رأيت الظلم! رأيت ظلم البشر وقهرهم وإذلالهم وخَبرته وعشته وقاسيته بعد ما كنت بعيداً أشد البعد عنه.. ورأيت أُناساً ينهون حياة الآلاف في لحظة ولا يهتزون ولا يرهبون حرمة الموت الذي تُشَمّ رائحته في ذرات الهواء.
رأيتهم في جميع الأفكار والتيارات والفصائل، دوماً يستخفّون القتل ويظنون أنهم على الحق وأن سواهم ممن خالف هواهم لا قيمة لحياته.. رأيت بشراً يحكم على بشرٍ أن يقضي عمره وراء القضبان، ويحكم على أهله بالتشرد والضياع ظلماً مبيناً.. ويخرج من ثَمَّ فينام ملء جفنيه غير عابئ ولا شاعرٍ بأدنى ذنب أو لسعة ندم أو تأنيب ضمير.. رأيت عشرات الأيديولوجيات تتكلم باسم ديني وتزعم تمثيله وتكره بعضها البعض، ويظن كل منهم أن له الجنة، ثم رأيت نظاماً يسجنهم ويقتلهم جميعاً بلا تفرقة زاعماً -أيضاً باسم ديني- أن كلهم في النار.
وأنا أتأملهم جميعاً من الخارج، مدركاً ببطء أن ما زال أمامي شوط طويل أقطعه في البحث عن الحق، متذكراً عندما مرت جنازه يهودي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقام واقفاً، وعندما سأله أصحابه متعجبين، رد رداً جميلاً مؤكداً قيمه الإنسان كإنسان، فقال: “أوَليست نفساً؟”، فأهز رأسي متعجباً عندما أقارن ما أرى بما أعلم.
هل نستطيع تغيير هذا العالم؟
وبعدما رأيت العتمة التي تغطي الكوكب، وجدتني أواجه يومياً الظلام الكامن في نفوس البشر.. صُدمت عندما رأيت المدى الذي يمكن للإنسان أن يبلغه من الحقد والغل والكره والتشوه الذي يمكن أن يصيب روحه.. تألمت على إلف الإنسان للموت والقتل، بل وقدرته على الشماتة والفرح في موت الأبرياء.. ورأيت ما يمكن أن يصنعه الظلم والقهر بالنفوس البسيطة فيحولها إلى آلات بث الكراهية في كل مكان، ويجعلها تتشفّى في أي مصيبة، فاقدة كثيراً من إنسانيتها.. ولم أعد أعلم أأمقتها لذلك أم أشفق عليها؟
رأيت سرعة رهيبة في إصدار الأحكام وانعدام التماس الأعذار ورغبه في الإيذاء والعقاب، بدلاً من مد يد العون والمساعدة، وكأن كلاً منهم نصّب نفسه إلهاً على الأرض يوزع الأحكام توزيعاً، ثم رأيت بعضاً ممن يملكون الإنسانية ينكرون بقلوبهم ولا يتكلمون على شيء مما يشهدون من الأحكام المندفعة نحو كل من يحاول قول الحق من كل صوب وحدب..
ولكني مع ذلك أعذرهم وألتمس لهم ألف مبرر؛ لأني شخصياً أرتعب من اللحاق بصفوفهم إن كُتب لي يوماً الخروج.. أرتعب أن أكون جباناً.
هل نستطيع تغيير هذا العالم؟
رأيت بعد ذلك مصير القلة القليلة التي تحاول بالفعل مواجهة وتغيير هذا الجبروت وإضفاء بعض النور على هذا الظلام الدامس.. بلا مكسب ولا مصلحة شخصية لهم.. أحببتهم وهويتهم، بمختلف أفكارهم واعتقاداتهم، ورفعت رأسي تيهاً وفخراً أن قُرِنَ اسمي باسمهم، مع حقارة قدري بجوارهم، وتألمت كثيراً لما رأيت أن مصيرهم الدهس!
نعم، يدهسهم الظلم والشر وقوى الظلام، فلا تتاح لهم الفرصة أن يغيروا شيئاً، ويظل العالم كما هو، وتنتصر قوى الشر عليهم في النهاية، فيكون قدرهم هو الدهس، لكنه دهس لا كالدهس، فلأن تُدهَس بعز وشرف في سبيل الحق، خير من أن تعيش مديداً فتُدهَس كل يوم بذُلّك وعَارِك..
هو مبدأ لا يفهمه إلا من تيقن أن هناك عدلاً إلهياً في النهاية، وأن طريق الحق شاق وطويل.. لا يهم الوصول إلى نهايته، إنما المهم أن نموت عليه، وأستشعر القشعريرة في معنى هذه المقولة القائلة:
“الحياة وجدت بوجود الألم.. الحياة خلقت من رحم الألم..
الألم أعظم موصل للخلود إن فقهنا.. لأنه زياده في الرصيد.. أما السعادة والهناء، فهما كان موقعهما في الدنيا، فهما خصم من رصيد النهاية..لأن الغاية هي كون النهايات سعيدة، والرحلة ألم.. فإن لم توقن أن النهاية سعيدة، فلا معنى إذا لألم الرحلة”.
أدرك أخيراً الحقيقة المؤسفة، وهي أنى لا أستطيع تغيير هذا العالم.. لكني أدرك أيضاً برمضة أمل أني إن تجردت وصدقت النية مع خالق هذا الكون وأخلصت بما فيه الكفاية.. ربما سينعم عليَّ يوماً ما، بأن أفهمه”.
عبد الرحمن الجندي
الجمعة 26 / 8 / 2016
من سجن وادي النطرون