عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – يوم الأربع مش أزرق؟

اسم السجين (اسم الشهرة) : عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 10/11/2018

السن وقت الاحتجاز: 18 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون/تأهيل وادي النطرون

يوم الأربع مش أزرق؟

– «يوم الأربع مش أزرق؟»
نظر إليّ أيمن متعجبًا وكأني فقدتُ صوابي.
– «طب اسمك، أيمن، مش بتحسه مِدِّي على أحمر؟»
– «انت اتجننت يا ابني؟» رد ضاحكًا ظانًا أني أمزح.
شعرتُ بالحماس يملؤني. بدأت أحكي له عن الظاهرة التي كنتُ أقرأ عنها منذ دقائق في كتاب عن أسرار العقل يسمى Incognito. اسم الظاهرة Synesthesia، ويربط مَن يملكونها بعض مدخلات عقلهم بالألوان والأرقام والأسماء والأيام أو الكلمات، أو كالروائح والأصوات بشكل عام. تزايدت دهشتي وأنا أقرأ وصفًا دقيقًا لما كنتُ أشعر به من صغري، ولم ألحظ قط أنه شيء غريب أو مختلف.
كطفل صغير، وكجميع مَن في سني، كنتُ أبحث دومًا عن قوتي الخارقة. حاولتُ الطيران وجربت تحريك الأشياء بقوة عقلي، والآن فقط شعرتُ أخيرًا أني وجدتُ ضالتي.
السينِسيزيا. قوتي الخارقة.
– «طب يوم السبت إيه؟»، سأل أيمن.
– «أخضر فاتح».
– «الأحد؟»، أكمل وقد أعجبته اللعبة.
– «بنفسجي».
– «الاتنين؟»
– «أصفر».
– «التلات؟»
– «أحمر».
– «الأربع؟»
– «أزرق»
– «الخميس؟»
– «بني».
– «الجمعة؟»
– «أبيض».
استرجعتُ هذه الذكرى ووجهي منضغط على الشباك الحديدي لنافذة سيارة الترحيلات التي أركبها وحيدًا؛ ذكرى من أربعة أعوام، مع أيمن الذي لم أره منذ عامين.
استرجعتها لأني مع فوران الأحاسيس في رأسي الآن، أدركتُ بُعدًا جديدًا لقوتي الخارقة؛ المشاعر.
الظلم بني كالطين المبتل. القهر أحمر كالصدأ. الغضب أزرق قاتم كبقعة حبر.
كنتُ عائدًا من مستشفى ليمان طرة بعد استئصال ورم غريب في إصبعي. في طريق عودتي مررت بغرفة المحتجزين في المستشفى وسألتُ عن «أمَّد».
بعدما وصفته أخبروني أنهم يعرفونه، ثم أخبروني أنه قد مات.
انفجرت بقعة الحبر من جديد خلف عينيّ. حاولت دفع الذكرى بعيدًا. الغضب يلطخ الروح، تمامًا كما تلطخ بقعة الحبر الورق.
ركزتُ بعيني في الشارع الذي لم أره منذ عامين. أتفه الأشياء يحرك الكثير فيّ؛ رجل يمشي، آخر يتحدث في الهاتف، شباب حول ثلاجة للمشروبات الغازية، فتاتان عائدتان من مكان ما، أو ربما ذاهبتان، لا أدري، قطط تأكل من صندوق قمامة امتلأ عن آخره.
سيارات تمر مسرعة، أنواع أعرفها وأنواع أراها للمرة الأولى.
أشياء تافهة، حقيرة، مؤلمة، لم أتخيل يومًا أن أحنّ إليها بهذا القدر.
ملأتني النوستالجيا المصبوغة بلون الصدأ الأحمر.
هل أعود يومًا ما لأرى كل تلك الأشياء كما يرونها؟ أم ستظل شِبَاك الحديد تظهر أمام عينيّ أينما وجهتهما حتى أموت؟
هل من أمل أن أندمج في الحياة وأنسى وأمحو؟ أم ستظل الغربة صديقًا وفيًا، يشبك ذراعه بذراعي، بارًا بقسمه ألا يفارقني أبدًا.
نزلتُ من السيارة ومددتُ يدي في غير انتباه ليفكّ أحدهم القيود المحيطة بمعصمي. مشيتُ وأنا غارق في أفكاري ودخلتُ السجن. لمحتُ بعض الأهالي ينظرون لي بشفقة وتعاطف. ذكرتني نظراتهم بنظرات الطبيب منذ ساعات وهو يحادثني خلال العملية.
أكره نظرات الشفقة. أفضل أن ينظر لي الناس بكراهية. عندما ينظرون لي بكراهية أستطيع أن أحتقرهم. عندما ينظرون لي بشفقة أحتقر نفسي.
لم أسع يومًا في حياتي لأنتهي مثيرًا للشفقة.
استلقيتُ على ظهري في الزنزانة، ونظرتُ للسقف. مرَّ برأسي سطرٌ من نشيد للأطفال كنت أحبه:
«لا تبالِ فستشفى الجراح. وظلام الليل لن يطول».
ربما تشفى الجراح، فكرتُ، لكن الندوب لن تزول.
عندما أغلقتُ عيني كان جفناي بلون الطين المبتلّ.