اسم السجين (اسم الشهرة) : علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد (علاء عبد الفتاح)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 3/5/2014
السن وقت الاحتجاز: 34 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: مدون ومبرمج – ناشط سياسي
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة
توَحُّد
يسلبني الحبس قدرتي على المشاركة، قدرتي على المساهمة. أحاول تعويض عجزي بالانغماس في القراءة عساني أصل لمعرفة أو حكمة تفيد، أنقلها إلى من يزورني أو تنفعني يوم إطلاق سراحي.
أقرأ – ضمن ما أقرأ – عن الـ”أوتيزم” – عن “التوحد” وأسرح في القراءة فأصل لمحنة الثورة وأتصور أن التوحد صورة بلاغية لحالنا. أشرع في كتابة نصوص تطابق بين فقدان القدرة على الكلام أو غيابها وجيل يفقد تدريجيا قدرته على الهتاف، أو تشبيه إعاقات التواصل وعجزنا عن فهم طوابير الراقصين، أو استعارة عن الحساسية الفائقة للصوت التي تجعلنا نتألم لأصوات رصاص تطلقه الدولة بانتظام ولا يسمعه من لا يشاركونا الإعاقة، وننزعج لدماء شهداء أشياء أخرى غير الواجب لا يؤذي منظرهم عيون المفوضين. نصوص ركيكة والأهم غير علمية ولا دقيقة فالأوتيزم ليس مرض نفسي تصاب به جراء صدمات الحياة، هو حال معروف وموثق، يرتبط أساسا بصعوبات في التعلم وواجباتنا لمواجهتها. تشير الكتب لأهمية الانتباه لما يسمونه “المنهج الضمني”.
قد نواجه مشاكل في تعلم مناهج المدارس المعروفة المعلنة. ربما يصعب علينا بعض المواد، ربما يعوضنا الأوتيزم بتسهيل فهم مواد غيرها، لكن المنهج المستتر هو لب المشكلة. ليس سراً، هو ببساطة دروس ومهارات وقواعد وأسس التواصل الإنساني. لم يخفيه أحد. افترضت البشرية أنه مفهوم ضمناً ومعروف بالضرورة، ولذا لم يكتبه أحد. لماذا نسأل بعض عن الأحوال عند اللقاء رغم عدم رغبتنا في إجابة تفصيلية، ما الذي يدفعنا لادعاء الحب لمن لا نحب وكتمانه لمن نحب أحيانا، ما أهمية إظهار أنواع ودرجات مختلفة من الاحترام لزملاء العمل ورؤسائه؟ لماذا تطالب “الميس” بصمت يمكّنها من الاستماع لصوت رنة الإبرة رغم أنها لا تحمل إبرة في يدها؟ ناهيك عن القواعد المركبة للكلام واللبس والسلوك حسب توزيع العلاقات، والمتغيرة حسب المكان والزمان والظرف.
نعيش كلنا وفقاً لمنظومة معقدة ومركبة ومتغيرة لا يحتاج أغلبنا لتعلم تفاصيلها في البيت أو المدرسة، لكن يقف أغلب المتعايشين مع التوحد أمامها عاجزين فتزيد عزلتهم إلا إذا بذل أحدهم الجهد المطلوب لتعليمهم المنهج الضمني. لا يهم إن كانت تفاصيل هذا المنهج السري مفيدة أو منطقية أم لا. إن لم تلتزم بها سيلفظك المجتمع. ما الأاسهل؟! أن تقنع المجتمع أن الرد على “عامل إيه؟” بتقرير حقيقي عن المشاعر لا يضر بل قد يفيد، أو إنه لا بأس من عدم السؤال عن الأحوال لو كان اللقاء عاجل لا يسمح بالنقاش حول الحالة النفسية، أم أن تدرب الأقلية العاجزة عن امتصاص المنهج الضمني ضمنياً على الرد ب”الحمد لله” بغض النظر عن طبيعة المشاعر والسياق؟!
تحذر الكتب، لا تدريب على الانصياع، واجبنا تعليم المنهج وتمكين “المعاق” من أن يرصد ويدرك ما يتوقعه المجتمع ويقرر بإرادته الحرة كيفية التعامل. قد يختار الانصياع وقد يتمرد. “ما الأسهل” ليس السؤال الوحيد، اهتم بما الأثرى وما الأجمل وما الأرحم .. وما الأفضل!! تستهويني فكرة المنهج الضمني. من منا نحن “الأصحاء العاديين” لم تربكه أو تخنقه القواعد الضمنية للتعامل والتواصل؟! من منا لم تنتابه رغبة في الصراخ أو البكاء أو السباب أو الضم أو التقبيل في غير موضعها؟! نصف المنهج الضمني غالباً عن كيفية إخفاء آثار اللحظات النادرة التي تنفجر بها.. أو تشاكس ولا تلتزم.
.. يقطع وصولهم حبل أفكاري وتنقطع قراءاتي. توقعناهم منذ تسرب إلى الصحف أنباء تعذيبهم وتسرب إلينا أن الإدارة تنتظر وارداً جديداً من سجن أبو زعبل. حاولنا التحضير لاستقبالهم، لكن كيف ترحب بصديق خاض معك نفس المعركة لكنه خاض وحده التجربة؟ أيطمئن إن أخبرته أن سجنك القديم/ سجنه الجديد آمن، وأن المحنة انتهت، أيغضب؟! هل عليَّ ان أشعر بالذنب أم بالامتنان؟ أكيد تعلمناها في المنهج الضمني فتباين حدة الظلم وفداحة الثمن ليست خبرة جديدة، قضيت عمرك تتعايش معها فما بالك ترتبك أمام حرارة غضبهم؟!
نتقمص الأوتيزم، نستقبلهم بتقرير مفصل عن الحقائق: لا تعذيب هنا ولكنكم غالباً أتيتم لتستقروا، لا معنى للقانون ولا أمل في الدستور ولا قيمة للمحاكم، سنبقى إلى أن ينتهوا من خارطة طريقهم الملعونة. يردون علينا في توحد مشابه بتقرير مفصل عن التعذيب ووقائعه بنبرة ميكانيكية ثابتة، بلا خجل، بلا تورية. تنبهني الكتب ألا نفترض غياب المشاعر، الأوتيزم يعيق التعبير والتواصل لكنه لا ينفي الإحساس.
صمتهم يفصح عن غضب جارف، نتفاداه بلعب الكرة. لكن الغضب لا يمكن احتواءه، تأتي ركلاته عنيفة وقاسية، نحاول تفاديه في صمت متواطئ. مع أول إصابة ينفجر غضبنا كلنا. نرد الركلات العنيفة بأعنف منها. كل شيء مسموح به في اللعب إلا لمس الكرة باليد. اللعب هنا بقواعد “أبو زعبل”. ينتهي الماتش بفارق في تعداد الأهداف وتعادل في الإصابات!! تقول الكتب أن السلوك العدواني محاولة للتواصل، للتعبير عما يعجز التعبير عنه. هل كانوا يعبرون عن غضبهم منا لأن الجلاد اختارهم ولم يختارنا؟! لأن الجلاد سألهم عنا؟!! أم هو غضب من الجلاد نفسه؟! أو من أنفسهم؟! وماذا عنا إذاً؟! هل غضبنا لأنهم أشعرونا بالذنب؟ أم لأنهم صارحونا بتفاصيل التجربة؟ لأنهم بدوا أقوى منا؟ أم أن غضبنا كان لأننا كنا نعتمد عليهم في إطلاق سراحنا؟!
يمر باقي الأسبوع في انتظار شفاء إصابات الملعب، لكن الغضب ينحسر. حكمة باطنية دفعتنا للعب هذه المباراة، ربما هي ذاتها التي دفعت البشرية لاختراع رياضات جماعية عنيفة؟! أن العنف يمكن أن يمارس في سياق غير القهر والعداوة، أن الألم يمكنه أن يأتي بغير أن يمس الكرامة، وأن أجسادنا قادرة على تحمل الألم لأتفه الدوافع، وأرواحنا قادرة على تجاهل الإصابة بل والتندر عليها طالما توفر قدر من الأمان. ربما لا يتخطى الماتش أثر عبارات مثل “الحمد لله” و “إن شاء الله” لكن كسائر مفردات المنهج الضمني يساعد على الحياة ويسهل مشاركة الآخرين فيها.
مع زيارة الوفد يعود الغضب، كان بإمكانهم تعطيل السجان والجلاد، لو كانوا هددوا السلطة بالانسحاب مع أول رصاصة، لو كانوا عطلوا الدستور مع أول تطبيق لقانون التظاهر، لو كانوا أضربوا عن إعداد برامج الفضائيات وصفحات الجرائد مع أول كذبة، لو كانوا أعلنوا سحب تفويضهم مع أول شهادة تعذيب… لكنهم أصروا على التعامل مع قتل وتعذيب واعتقال أعضاء أحزابهم، ورفاق أبنائهم وتلاميذ زملائهم وأبناء أقاربهم على أنها أخطاء وزلات. استبدلوا المواقف الحاسمة والضغط والانتصار للحق بالنصح وأحيانا بالاستجداء!!
لتفهم لماذا يحذرون من عودة دولة مبارك رغم أن دولتهم فاقت دولته في الإجرام عليك أن تتعلم المنهج الضمني، لتفهم لماذا يحذرون من عودة التعذيب رغم يقينك أنهم يعرفون أن التعذيب يوماً لم يتوقف عليك فهم المنهج الضمني، لتفهم لماذا يتحدثون عن انتهاك دستور كتبوه وهم على يقين أن الدولة لن تلتزم بمواده عليك أن تعود للدستور الضمني.
“نعم” لم تكن للدستور المكتوب بل كانت للدستور المستتر الذي طالمنا حُكمنا به واحتاجت الدولة لتجديد مشروعيته.
في الدستور الضمني قواعد معقدة للتعذيب، تتوقف على هوية الضحية، فالتعذيب جريمة لو وقع على الفئات المحرم تعذيبها والمتعارف عليه أن قمعها ينحصر في التشويه الإعلامي والحبس الاحتياطي في ظل ظروف جيدة نسبياً ولمدة قصيرة نسبياً.
وتعرف الفئات المحرم تعذيبها بحسب الطبقة الاجتماعية والانتماء العرقي وحيازة جنسية ثانية من عدمه والانتماء الحزبي ومستوى التعليم والسن وأي وكل تفصيلة يمكن استخدامها لتصنيف الناس، كما أن الظروف الاستثنائية قد توسع من فئات المحلل تعذيبهم بشرط أن يتم التنكيل به لحظة الاعتقال وقبل العرض على النيابة، لكن أن يستمر التعذيب بعدها فهذا ما لا يمكن قبوله.
يتبع الدستور الضمني منطقه الخاص صعب التفسير، فمثلا لا يطالب أحد باستخدام التعذيب لردع من يجرم من رجال الشرطة ولا لانتزاع الاعترافات من رجال الأعمال الناهبين، بينما تعذيب الإرهابيين والمسجلين خطر يكاد يكون مطلب شعبي.
يمكن تعذيب المولود في سيناء أياً كان انتمائه الطبقي والسياسي، التنكيل بنجل البلتاجي ممنوع لو كان اسمه عمار ومسموح لو كان اسمه “أنس”، أما تصفية أولاده فمكروه لكن غير مجرّم إذا التزمت الدولة بالقتل أثناء فض الاعتصامات فقط.
لهذا يتحدث كتبة الدستور وقيادات الأحزاب وأعضاء المجالس القومية وكبار الكتاب عن “أخطاء” الدولة فقط عندما يطول التعذيب خالد وناجي، فالمقصود ليس الانتهاك المنهجي والمتواصل للدستور المكتوب، بل ما يتصورون أنه خلل غير مقصود في تطبيق الدستور الضمني، يتحدثون وكأن من عذبهم لم يكن يعرفهم وتصور أنهم إخوان، هم على يقين أن الخطأ سيتم تداركه ومتمسكين بالدفاع عن حق الدولة في تعذيب الفئات الصحيحة.
كان بيدهم منع ما حدث أو وقف تفاقمه لو كانوا تمسكوا بما أعلنوه من مبادئ بألسنتهم وما كتبوه بأيديهم، ولكن بعد شهور من تأييد القتل والتعذيب والاعتقال وتكميم الأفواه وقطع والخوض في الأعراض تبددت قدرتهم على التأثير، والآن عندما اكتشفوا أن القمع أقرب إليهم مما ظنوا لم يتبق لهم من مواقف تتخذ إلا تشكيل وفود بائسة لزيارة السجون وإقامة مؤتمرات هزلية للتنديد بالخطأ غير المقصود.
ما لا يفهمونه هو أن الدولة لم تخطئ، فالدستور الضمني كأي دستور يحدد الحقوق والواجبات. حاولت الدولة جاهدة أن تلتزم ولا تعذب إلا من يحل توافق ٣٠ يونيو دمهم، ولكن الثوار رفضوا الالتزام بالدستور الضمني وتحدوه فنزعوا عن أنفسهم حمايته.
صاغوا قانون تظاهر ليستخدم ضد الإخوان فأصرينا على أن تكون أول تجربة له بأجسادنا. قتلوا الطلاب الفقراء الإسلاميين بجامعة الأزهر فأصر طلاب جامعة القاهرة على تحدي خرطوشهم. أشعلوا حرباً على الإرهاب استدعت واستقدمت بالضرورة الإرهاب لقلب العاصمة. كسرنا كل القواعد عندما أصرينا على أن تفجير المديرية لن يمحو من ذاكرتنا ما شاهدناه داخلها من تعذيب وانتهاكات.
لم تخطئ الدولة، بل نحن تعمدنا الخطأ والتمادي فيه، ربما هي مزايدة منا وشهوة لفضح القواعد المستترة للقهر وتعرية مبرريها، ربما هي حكمة منا وبصيرة لأن السلطة التي لم تلزمها بدستور مكتوب لا يمكن أن تلزمها بأي دستور وستنضم عاجلا أو آجلا لزمرة المحلل تعذيبهم أياً كان، ربما هو ضمير يرفض أن يترك من شاءت أقدارهم أن يحل تعذيبهم وحدهم، أو ربما هو نوع من الأوتيزم يعمينا عن الدستور الضمني وإعاقة تجعلنا غير قادرين على تعلمه فطرياً، أوتيزم يجعلنا نفهم الكلام بمعناه الحرفي فنصدق أن الثورة فعلا مستمرة وأن الشعب فعلا يريد إسقاط النظام.
ما الأسهل؟! أن تدرب الأقلية العاجزة عن الامتثال للدستور الضمني على تجاهل الظلم الواقع على الأغيار وتفادي تحدي السلطة وافتراض حسن نيتها، أم إقناع المجتمع بلا معقولية أن نتعايش مع سلطة تحلل لنفسها القتل والتعذيب والاعتقال طالما التزمت بقواعد ضمنية؟ تحذرنا الكتب.. لا تدريب على الانصياع، واجبنا تعليم المنهج لتمكين المعاق من أن يدرك ويرصد ما يتوقعه المجتمع ثم يقرر بإرادته الحرة كيفية التعامل، قد يختار الانصياع وقد يتمرد!!
ما الأسهل ليس السؤال الوحيد.. اهتموا بما الأثرى.. وما الأجمل.. وما الأعدل.. وما الأرحم.. وما الأفضل؟!