اسم السجين (اسم الشهرة) : علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد (علاء عبد الفتاح)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 6/16/2016
السن وقت الاحتجاز: 34 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: مدون ومبرمج – ناشط سياسي
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة
مخاض عالم رائع جديد (1): بين أوبر واللوديين
بريطانيا، فجر الثورة الصناعية: تجمهرات غاضبة لنساجين وحرفيين مهرة تقتحم مصانع النسيج الحديثة وتخرِّب الآلات البخارية والأنوال المميكنة التي تهدد أرزاقهم واستقرار حياتهم. ينشغل المجتمع بمتابعة أخبار حركة اللوديين (نسبة لأحد قياداتهم) لوهلة قصيرة إلى أن ينهزموا تمامًا ولا يبقى لهم أثر ولا ذكرى إلا كعبرة. صارت “اللودية” لفظة شائنة تُطلق للحطِّ من كل من يطالب بالتباطؤ في التقدم والحداثة، أو بالتراجع عنهما- تذكيرًا بعبثية تحدي العلم والتكنولوجيا. وحدهم اللوديون يقفون أمام التغيير. ما أغباهم!
باريس، فجر الثورة التكنولوجية الرابعة: احتجاجات عنيفة لسائقي التاكسي تعتدي على سائقي أوبر وتخرب سياراتهم الخاصة اعتراضًا على قطع أرزاقهم وتهديد استقرار حياتهم. وحدهم اللوديون يقفون ضد التاريخ. ما أغباهم!
القاهرة، فجر الثورة التكنولوجية الرابعة: احتجاجات صاخبة لسائقي التاكسي الأبيض ترتب كمائن لسائقي أوبر وتسلمهم للشرطة. وحدهم اللوديون يقفون ضد التاريخ. ما أغباهم!
كاليفورنيا، فجر الثورة التكنولوجية الرابعة: مجموعات من سائقي أوبر تقاضي الشركة في المحاكم مطالبين بحقوقهم بصفتهم موظفين لديها يعملون بأجر، وبالتالي لهم حقوق وضمانات العمل المتعارف عليها، والتي لا يجوز التنازل عنها في أي عقد توظيف. يرُدُّ دفاع الشركة بردود قانونية شديدة التعقيد والتفصيل لتوضيح أن هؤلاء مستخدمون لخدمات الشركة، ويجري التعاقد معهم في كل مشوار على حدة، ولا يمكن قانونًا اعتبارهم موظفين. داخل قاعات المحكمة يدور الجدل حول تفاصيل من نوع مدى مسؤولية الشركة عن تدريب السائقين أو توفير أدوات العمل. خارج المحكمة كانت رسالة الشركة أبسط كثيرًا: هؤلاء لوديون وإن انغمسوا في التقنية الحديثة، لوديون لأنهم رافضون لحقيقة أن عقود العمل المرتبطة بحقوق وضمانات وتأمينات وإجازات ورواتب محددة راح زمنها، ولم تعد مناسبة للواقع الاقتصادي والتكنولوجي القادم. لوديون يرفضون التقدم والحداثة، ويتحدون العلم والتكنولوجيا. وحدهم اللوديون يقفون ضد التاريخ. ما أغباهم!
لودي قسرًا
هذا المقال بالضرورة ملئ بالأخطاء. أكتبه مستندًا إلى الذاكرة والخيال فقط. ما باليد حيلة. في السنة الأولى من اعتقالي كانت مصلحة السجون تسمح بدخول المراجع والكتب والمجلات والدوريات بالعربية والإنجليزية بلا قيود. وبعد تفاوض سمحوا لأسرتي أن تسلمني في الزيارات مقالات مطبوعة من الإنترنت بعد مراجعة سريعة من مباحث السجن. وكان يُسمح لي بالاشتراك في كافة الجرائد المحلية والعربية المتاحة بالسوق. لكن مع التقدم في خارطة الطريق، واستقرار الحياة الدستورية، وتوالي انتصارات الجيش والشرطة والقضاء والإعلام على الإرهاب، صار لزامًا على مباحث أمن الدولة أن تتدخل، وتمنع كل ما سبق عدا الجرائد القومية، وبعد تفاوض طويل مجلة ميكي، ورواية واحدة في الشهر.
عبثًا أحاول فهم المنطق الحاكم لقرارات المنع. لا أتساءل عن الذرائع القانونية بالتأكيد. فلم يصل بي الغباء لدرجة افتراض أن الدستور والقوانين ولائحة السجون من الأمور التي تشغل بال رجال الداخلية البواسل. إنما أحاول فهم الضرورة الأمنية التي تحتِّم حرمان مسجون غير قادر على الفعل من قراءة ما هو متاح لأحرار غير مكبلين. ترى ما النشاط المهدِّد للسلم العام أو لنظام الحكم أو حتى لنظام السجن إن أتيح لي الاشتراك في جريدة الحياة اللندنية مثلًا، أو قراءة صفحة من ويكيبيديا؟
لا تقتصر عيوب هذا المقال على أخطاء في التواريخ والأرقام والمعلومات لغياب المراجع. المشكلة أنني صرت لوديًا بشكل قسري. في زنزانتي، الزمن لا يمر والتاريخ لا يتحرك. ما يُستجد في المجتمع لا أعرف عنه، وإن سمعت لا أقدر على فهمه، وإن قدرت لا أدرك وقعه على الناس ولا أسمع ردود أفعالهم. وها أنا كلوديٍ أصيل أحاول الاشتباك مع موضوع معقد يدور حوله سجال واسع رغم عجزي عن متابعة أو فهم هذا السجال. لذا أعذروني إن افترضت أن لديّ ما أضيفه، ثم تبين أن كلامي مكرر ومردود عليه.
لا يشغلني مصير التاكسي الأبيض أو غيره. فلمدة ثلاث سنوات على الأقل (قد تطول إن تدخلت عدالة القضاء، أو تقصر إن تدخلت عدالة السماء) ستنحصر تنقلاتي في سيارات الترحيلات، وهي وسيلة مواصلات لم يطرأ عليها أي تطور منذ مظاهرات 1986. لكن يشغلني شكل سوق العمل الذي آمل أن أعود إليه بعد حين. كما تشغلني هشاشة وضعي كمتخصص في تكنولوجيا المعلومات فُرض عليه الخروج من السوق لسنوات، وبالتالي عدم متابعة تغيراته ولا مواكبة تطوراته.
صراع أوبر والتاكسي الأبيض مجرد معركة افتتاحية في حرب طويلة قادمة على مفهوم العمل، كما استقررنا عليه كأحد نتائج الثورة الصناعية. من يظن أن وظيفته أو رزقه آمن اليوم قد يجد نفسه في زمرة اللوديين غدًا وبدون سابق إنذار. حتى سائقو أوبر أنفسهم غير آمنين. قريبًا ستعمَّم السيارات ذاتية القيادة، وربما تستغني أوبر عن العنصر البشري وأخطائه ومشاكله. وقتها سيكتشف من عارضَ منهم تحركات زملائه، المطالبين بعقود عمل دائمة، قيمةَ تلك العقود التي تؤمن المرء ضد الفصل التعسفي، وتضمن مكافأة نهاية خدمة. من يقدر على منافسة الروبوتات في النظافة والالتزام بقواعد المرور؟ حلٌ نهائيٌ لمشاكل التحرش.
هل أنت مطمئن لكون وظيفتك لا يمكن أن يحل محلها جحافل من المتعاقدين بالقطعة؟ هل أنت مستعد لمنافسة الروبوتات؟ أم تراك ستنضم لقوم لود؟ ناهيك طبعًا عن الاحتمالات المتزايدة دومًا لانضمامك لزمرة اللوديين قسرًا. وحدها الروبوتات قادرة على إرضاء حكامنا.
آلام المخاض
نعود للوديين الأصليين، مهما حاولنا تفهم دوافعهم ستظل الحقيقة التاريخية أن الثورة الصناعية وفرت وظائف ورخاء ورفاهية، بل واستقرارًا وأمانًا غير مسبوق، ويفوق بمراحل ما هدمته. منطقي إذن أن تصير صفة اللودي سبَّة مستخدمة للتعبير عن التخلف والرجعية.
بناءً على تلك الخبرة ظهرت نظريات تفسر تاريخ المجتمعات من خلال تتابع ظهور تقنيات مزعزِعة لاستقرار الأسواق (Disruptive Technologies): معارف وتقنيات حديثة تغيِّر شكل وطبيعة الإنتاج وعلاقات العمل والملكية في المجتمع. ظهورها حتمي وانتشارها تلقائي – وهو أمر إيجابي بالضرورة. والفئات المتضررة دائمًا أقليات تبغى حرمان الأغلبية من ثمار التقدم. وأيًا كانت الأضرار الناتجة فهي مؤقتة، ويمكن اعتبارها آلام مخاض ضرورية لولادة عالم رائع جديد.
يدعي المروِّجون للتقنيات المزعزِعة أنها، هي والانقلابات المصاحبة لها، تكاد تشابه الظواهر الطبيعية. فرغم أنها نتاج أبحاث وتجارب أفراد ومؤسسات، إلا أنها حتمية ولا يمكن تعطيلها ولا تعديل مسارها، وإن عرْقَلْتها في بلد، ستظهر ذات التقنية في بلد آخر، وفي النهاية سيمتد تأثيرها ليشمل الكوكب كله.
تحولت هذه النظريات من أداة لتحليل الماضي إلى أداة أيديولوجية لتشكيل الحاضر وصياغة المستقبل. صارت عقيدة مهيمنة على الأسواق، حيث يتنافس المستثمرون في سباق محموم بحثًا عن الفكرة أو التقنية المزعزِعة القادمة والفوز بأسبقية تمويلها واستغلالها، إن لم يكن احتكارها. كما يتسابقون على نقل تأثير التقنية المزعزِعة الحالية لأسواق ومجالات جديدة. مثلًا فقد شجع نجاح فكرة اقتصاد المشاركة في مجال الخدمات الفندقية البديلة (كـ”أوتش سيرف” و”إير بي أند بي”) المستثمرين على تمويل انتقال نفس التقنيات لسوق المواصلات (أوبر ليفت)، وتحاول الشركات ذاتها التوسع جغرافيًا لمدن وأسواق جديدة، وهكذا.
عندما تهيمن عقيدة ما على المصالح الكبرى بالأسواق يمتد تأثيرها حتى تصبح عقيدة حاكمة للدول وللحكومات ولكافة المؤسسات، إما بفرض الأمر الواقع ثم الضغط لتقنينه، أو بالصدام في المحاكم، أو بالتأثير على صانعي القرار من خلال تبرعات انتخابية ولوبيات ضغط وما شابه، أو باستمالة الرأي العام بالدعاية والإعلان، أو باستقطاب نخبة المجتمع عن طريق تمويل أبحاث ومؤتمرات، إلى آخره من أدوات التأثير المتاحة. في حالتنا هذه، كل الأدوات تُستخدم لترويج السردية القائلة إن التقنيات المزعزِعة خيِّرة دائمًا، وقادمة لا محالة، وإن أي محاولة لتعطيلها أو التأني في تبنيها أو التأثير عليها أو التحكم في نتائجها، مضرة بالضرورة، ومصيرها الفشل آجلًا أو عاجلًا.
وبما أني مدان بتهمة التشكيك في السردية المهيمنة، ومن معتادي جريمة تحدي الأفكار الحاكمة، بل ومسجل خطر بذات التهم ولا أمل في ردعي أو إصلاحي، أجدني غريزيًا متشككًا في قصة التقنيات المزعزِعة هذه رغم حماسي عمومًا للحداثة والتقدم والتقنية، خصوصًا تكنولوجيا المعلومات، ورغم أفضال تلك الخدمات والشبكات والتقنيات الكثيرة عليَِّ.
صحيح أن الثورة الصناعية أدَّت لرخاء واسع لكن آلام المخاض الملازمة لها لم تمر سريعًا، وإنما احتاجت أجيالًا حتى تستقر الأمور. لا اللوديون ولا أبناؤهم ولا عموم أحفادهم، استفادوا من الثورة الصناعية. كما أن الرخاء النسبي لم يكن نتاج التقنية وحدها، بل نتاج تفاعل التقنية مع ترتيبات سياسية مثل تحديد ساعات العمل، ومنع عمالة الأطفال، وإقرار معايير للأمان الصناعي، وضمان حد أدنى للأجور، وتحريك الأجور بناء على تفاوض جماعي، وفرض إجازات دورية، واعتبار الصحة والتعليم حقوقًا تقدم كخدمات عامة ممولة من خلال ضرائب مستقطعة من أرباح المستفيدين من الثورة الصناعية، إلى آخرها من ترتيبات حقوق العاملين بأجر كما نعرفها اليوم، نفس الحقوق التي تهددها الثورة التكنولوجية الرابعة.
لو أن مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية ظلت تسمح لأصحاب المصانع بتشغيل الأطفال لساعات عمل غير محدودة، في ظروف عمل غير آدمية، وبدون التزامات ضريبية تصاعدية وفقًا للربح (وهو ما كانت عليه الأوضاع فعلًا في بداية الثورة الصناعية)، لما أمكن اعتبار اللوديين اليوم مرادفًا للغباء والتخلف.
والأهم أن عملية المخاض هذه كانت مسارًا من الصراعات العنيفة بين طبقات ومصالح متباينة. فحقوق العمل، السالف ذكرها، انتُزعت عنوة من الدول والحكومات وأصحاب المصانع بعد عقود من الاحتجاج والنضال والثورات. انهزم اللوديون نعم، لكن حل محلهم مناضلون من الطبقات العاملة والكادحين، لم يرفضوا التقدم وإنما سعوا للتأثير على شروطه ومساره. تعاملت النخب والطبقات المهيمنة معهم بنفس مقدار العنف والتسفيه الذي واجهت به اللوديين، ولكن المقاومة استمرت. وصلت الاحتجاجات أحيانًا لدرجة تخريب العمال للماكينات – مع الفارق طبعًا بين لوديين غايتهم تخريب الماكينات، وعمال وجدوا التخريب وسيلتهم كأداة للضغط، سرعان ما أحلّت المجتمعات محلها تقنين حق الإضراب والتنظيم النقابي، بديلًا عن العنف والعنف المضاد.
اختزال العملية التاريخية المصاحبة للثورة الصناعية في آلام مخاض مؤقتة تسبق الرخاء، لا يخفي فقط تفاصيل الصراع الطبقي داخل الدول الصناعية الكبري، وإنما يخفي أيضًا تباين خبرات الشعوب مع هذه الآلام الانتقالية. أدّت الثورة الصناعية لتوحش وتوسع الاستعمار (فتحًا ﻷسواق جديدة وبحثًا عن مواد خام)، كما تسبب التنافس المسعور على جني ثمار الحداثة بين الدول الصناعية في اندلاع الحروب العالمية.
تلخيصًا، ربما يكون اكتشاف واختراع تقنيات حديثة أمرًا حتميًا، لكن تعميمها وانتشارها وهيكل الأسواق وعلاقات القوة القائمة عليها، ليست حتميات بل نتاج سياسات هي بدورها نتاج صراعات في المجتمع.
دراسة التقنيات المستجدة وتحليل تأثيرها والتشكيك في السرديات الدعائية المصاحبة لها ضرورة، وكذلك الاشتباك مع وضد هذه التقنيات والمصالح المستثمرة فيها بغرض التأثير على مسارها، والحد من الآلام الملازمة لانتشارها، وتعظيم المكاسب الناتجة عن تبنيها، وتوسيع رقعة المستفيدين منها، وتعويض المتضررين منها، ضرورة أيضًا.
لا أغبى من الواقفين ضد التاريخ إلا المنبطحين تمامًا أمامه. هؤلاء لا يبقى لهم أثر ولا ذكرى، ولا حتى كعبرة كاللوديين.