اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 11/11/2015
السن وقت الاحتجاز: 25 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة
مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم
المقال العشرون – متتالية الغياب – فُـــصَـــام
كَبْتُ الصراخ حماقةٌ ترهق صاحبها, وتستفز سادية جلّاده. الصرخة _كرَّد فعل منعكش للألم_ مؤشر لسلامة الجهاز العصبي. الصرخات قطرات عرق تسيل على جدران النفس لترطبها وتخلصها من أملاح الوجع ولو بنسبةٍ ضئيلة. فصلت بيينَ صرخاته مسافاتٍ بينية محفوفة بالبرد والظلام والصمت. انتظارٌ لألف احتمالٍ, كغولٍ بألف ناب..
لم يكن يعرف كيف سيتلقّى الضربةَ التالية: صفعة, لكمة, ركلة, سيل سباب, لسعة نار, شلّال مياة, أم صعقة كهرباء.. أعلى الرأس, على الوجه, في البطن, على الظهر, في الخصيتين “مكانهم المفضل”, أم على الأنامل. محاولة الدفاع عن النفس والجسد مستحيلة بالطبع مع القيود الغليظة والغمامة السميكة, هذا بالإضافة للإنهاك التام الذي أصاب جسده النحيل بما يشبه الشلل المؤقت.
في السلخانات, العين عورة, فهي العضو الوحيد الذي يجبرون الجميع على تغطيته. استطاع بالتدريب أن يبصر بأذنيه. وقع خطوات الجلّادين مؤشرٌ لأعدادهم, صدى أنفاسهم مؤشرٌ للمسافة الفاصلة بين الجسد المنتهك وبين أيديهم, نبرة السؤال (محتارًا أم مُصرّا).. الوقفات بين الكلمات (مُتَذكِّرًا أم قارئًا).. وطريقة الضحك (زهوًا أم غلًا). كانت تلك مدخلاته الوحيدة, التي يحللها ليحاول رسم صورة لمواجهة اللحظة التالة. هناك.. وحيدًا.. تعلّم بعض مهارات عالم العَمَى..
لاحقًا, صارت الجدران غمامة كبيرة, استعاد مهارتِهِ وانفصم عن عينيه ليحيا مع الأصوات والنبرات ثانيةً: أصغى لعشرات الحكايات داخل الزنازن المختلفة, أنصت للراديو طويلًا فسمع القرآن صوتًا إلهيا متعاليًا عن المكان والزمان, تبادل النداءات مع رفاق الزنازن الآخرين من خلف باب زنزانته.. دندن وحده كلما استوحش.. أصوات, أصوات, أصوات..
مهما قارب مستوى المعيشة فيه المستوى الآدمي, ومهما حوى من وسائل الحياة ما حوى, يظل السجن أرضًا موحشةً مهجورة, تضجُ بالذئاب والغربان.. والعناكب.. والعقارب. الوحدةُ ذئبٌ يلتهم الروح الجريح. النسيان غرابٌ يحومُ حول من تعفّنت أحلامه. الغربة عنطبوتٌ ينسج شباكه قضبانًا على عيون السجناء ليبصروا الكون أجمَع سجينًا.. والذل عقربٌ يلدغُ فيُميت.
[تعيثُ بعروقي العناكبُ..
كيف لها أن تصبَ
بعروقٍ تُحلِّقُ الفراشاتُ فيها؟
حبال حنجرتي الصوتية اهترأت صراخًا..
كيف لها أن تتناغم
مع أوتار الكمانِ الرقيقةِ في حنجرتِكِ؟
لا نور لدي..
روحي تفحّمت اغترابًا..
كيف لها أن تحيط
بروحٍ بلوريةٍ دون أن تلوِّثها؟
يا أنتِ..
أخبريني
كيف لكِ أن تقولي
ببساطةٍ, وبعد كل هذا
“أحبّكَ”؟
كيفَ؟]
هو.. غريبٌ
في الخارج مرَّ بالديجا فو _ Déjà vu حرفيًا تعني “شُوهِدَ من قبل”_ حالة عرضية تصيب جهازيّ الإدراك والذاكرة البشرية بالخلل ليشعر المرء وهو يخوض تجربة للمرة الأولى أنه خاضها سابقًا بكامل تفاصيلها. هنا, الآن, مر بحالة مقابلة الجامي فو _ Jamais Vu حرفيا تعني “لم يُشاهَد أبدًا”_ فجأة وهو يمرُ بموقفٍ مألوف يشعر أنه غريبٌ تمامًا, لا ينتمي إلى الواقع الحالي, ولا يدركُ ما يجري حوله. حالة عارضة تصيب البعض للحظات, لكن جميع المراجع الطبية تؤكد انها لا يمكن ان تصيب فردًا لثمانية عشر شهرًا متواصلًا. والمراجع تخطيء أحيانًا.
هو.. مُعلّقٌ.
السجنُ يعلِّقُنا في الفراغ, فلا نذوبُ ولا نرسُبُ. يطلُّ السجينُ فاقدًا للقدرة على الالتحام برفاقه في حياة جماعية لأنه يعلم حتمية انتهاء علاقتهم بترحيل أحدهم _غالبًا, أو بخروج أحدهم _نادرًا. يظل السجين فاقدًا للقدرة على الحياة الفردية الذاتية, ذلك أنه مُجبَرٌ على تشارُكِ ادق التفاصيل, والتخلي عن كل الخصوصيات مع مجموعة لم يخترها, ألقى بها القدرُ والطغيانُ في زنزانةٍ واحدةٍ.
هو.. متناقضٌ.
يفرحُ لأن رفيق زنزانةٍ أتمَّ مدتهُ أو أُخلى سبيلُه ليعود إلى الحياة في نفس اللحظة التي يحزن فيها على فراقه. يشتعلُ انفعالًا وهو يرى آثار تعذيبٍ على جسد رفيقٍ جديد في نفس اللحظة التي ببرود خبيرٍ وهدوءٍ معتاد يحاول أن يطَّبِبَ جراحه. يحكي ذكريات السلخانة ساخرًا, فيضحكونَ هثم, ويكتئبُ هو. تزورُه امُهُ, تدمعُ فيضحَكُ ليُضحكها. تزورُهُ مرةً أخرى, تضحكُ, فيدمعُ لأنه لمحَ اختلاجةَ رعشةٍ بعضلات وجهها تغالِبُ الانهيار. كلُّ هذا ثم يطالب بالحفاظ على توازنه النفسي كي يسير على حبل الزمان دونَ أن يسقطَ.. كيف؟
هو.. مُهَشَّمٌ.
حين تصبح الظروف المحيطة غير مناسبةٍ للحياة, تتصرفُ الكائنات بطرقٍ مختلفةٍ: التقوقع/التحوصل/البيات لتقليل مُعدَّل استهلاك الطاقة حتى العودة, وهناك كائنات أخرى تتكاثر بأعداد مهولة, لتعوض كثرتُها الفقدَ العدديّ المتوقع. أما عن التقوقع فلا سبيل له في حياة السجن الجماعية الإجبارية, أما عن التكاثر فللأسف لا يمتلك الذكر الىدمي القدرة على التكاثر الذاتي وحيدًا كالكائنات الأولية. فلنعترف, لم يعد بوسعه سوى مواجهة الحقيقة: لقد تهشّم في مواجهة الأحداث, تهشَّم انفصامًا.
الفُصام خللٌ نفسي لا يعني بالضرورة “اضطراب ازدواج الشخصية”, لا يعني أن يحيا المرءُ بشخصيتين منفصلتين كليًا, قد يحيا بواحدةٍ.. مُهشَّمة. الفُصام لغةً من “فُصِمَ” أي كُسِرَ دونَ أن يبينَ. كسرٌ نفسيٌ يتسرَّبُ إلى لاوعي المرء ليغدوَ غريبًا, مُعلَّقًا, مُتناقضًا, مُهسَّمًا..
هو.. أنا.. نحنُ..
لا ادري.
ربما أستطيعُ أن أنفخَ في الجمر الخامد لنُبْعَثَ كعنقاءٍ من تحت الرماد.
ربما نظل خامدين أسرًا في الغياب لزمنٍ لا يعلمُهُ إلا الله.
ربما..
المؤكد أننا إذ حضرْنا فسننسفُ النظامَ الذي آذانا بهذا القُبح.. المؤكد أن نظامًا سياسيًا تسبب في كل هذه الآلام فلن ينجوَنَّ.. ستُصيبُه لعنةٌ أبديةٌ.. لعنةُ الغائبين.