محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال الثاني والعشرون والرابع والأخير من [متتالية الغياب] “شرنقة الذكريات

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 5/25/2016

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

المقال الثاني والعشرون والرابع والأخير من [متتالية الغياب] “شرنقة الذكريات

(1) خلعتُ السترة الزرقاء, وأحكمتُ لفّها حول رأسي لثامًا لم يترك سوى عينيَّ ظاهرتين. أشرتُ لرفاقي المنتظرين خارجَ الباب أن أغلقوه. فعلوا _بعد أن ضحكوا لمنظر عاري الصدر النحيل المُلَّثَم_ فانسّدَ آخرُ منْفذٍ للهواء في الزنزانة الخاوية. كنا قد ألصقنا أوراق عُلَبٍ مقوّاة على فتحات الشبابيك الضيقة ذلك بعد أن أخرجنا متاعنا, هذا إن جاز تسمية كومة البطاطين والملابس متاعًا. وقفتُ وحدي أتأمّلُ المشهد. أعامان مرَّا حقًا وأنا أسْنِدُ روحي ورأسي إلى هذه الجدران؟ لامستُ شقًا في الجدار, رفعتُ عينيَّ لضوءِ المصباح المرتعش.. سحبتُ شهيقًا عميقًا.. وبدأتُ. الغازُ ينتشر.. الصراصير تخرج من تراب الشقوق ومن بين ثنايا الحديد. الغاز يزداد.. الصراصير تهرب من الأركان لأعلى السقف. الغاز يَكثُفُ ويلوي عنق الهواء.. الصراصيرُ تسقط دائخة من علٍ. سقف الزنزانة يمطرني بالصراصير, وأنا.. أواصل الرش. لم يكن حلمًا, أعداد الصراصير مهولة بحق, وهذه هي الطريقة الرسمية لتنظيف الزنازين في سجن المنصورة: استخدام مبيد حشري بكثافة بعد إفراغ وإحكام إغلاق الزنزانة. قسّمنا الأدوار, فكان من نصيبي الرش وبالتالي الاشتباك المباشر مع الأعداء. بعد أن أسقطهم أرضًا أغرقت أرضية الزنزانة بماءٍ مغليٍ سابقًا كي يرتاحوا بموت مباغت أثناء غيبوبتهم. طرقتُ الباب, ليفتح لي الرفاق من الخارج [لكم أشتاقُ بابًا يمكن فتحُهُ من الداخل..] استندتُ لمصطفى, التقطتُ أنفاسي, وأخبرتهم “تمت المهمة بنجاح, عشرُ دقائق وادخلوا لتدفنوا الجثث”. معظم الزنزانة من طلاب جامعة المنصورة, كليات, انتماءات, ثقافات شديدة التباين, لكننا متآلفين بشكلٍ ما. جلستُ أشاهدهم وهم يواصلون العمل بين مسحٍ ونفضٍ وترتيبٍ مازحين. كنت أضحكُ [وكم ذا بمصر من المضحكات..] لجيلٍ خرج ثائِرًا على غيلان الاستبداد وحيتان الفساد, فإذا به يُصارع.. صراصير السجون. (2) “نقصٌ في المكان, وفائِضٌ في الزمان” هكذا تُوصف حالة السجن في كثير من أدب السجون. قبرٌ مكاني بداخله صحراء زمانية. وبالطبع يهربُ الجميع من ضيق القبر إلى شساعة الصحراء, من مادية المكان إلى روحانية الزمان. هل نهرب صوب ذكريات الماضي أم أحلام المستقبل؟ ذكريات الماضي غالبًا. لماذا؟ لأن بيننا وبين المستقبل بابًا لا يُفتح إلا من الخارج وأسوارٌ تزدادُ علوًا كلما ازدادت رؤوس الرجال في الوطن انخفاضًا.. الذكريات.. منذ بدء اعتقالي وأنا أستعيدُ ذكرياتي مع أهلي, أصدقائي, ومعها “هِيَ..” كثيرًا. وكأن أرواحهم في هذا القبر المُحكم حولي ما عادت تقطنُ إلا ذاكرتي. فإن غبتُ عنهم ولم أرعْ الذكرى يوميًا وأحمها من غبار الإهمال, عصف النسيان بهم.. وبي. لكن الجديد مؤخرًا, أنني هنا في سجن وادي النطرون, صرتُ أستعيد ذكرياتي في سجنيّ السابقين: طرة, والمنصورة. كذكرى معركة الصراصير تلك التي لم تفارقني منذ أسبوعٍ تقربًا. ستةٌ وعشرون شهرًا, عمرٌ كافٍ كي تنمو في جنباته ذكرياتٌ تستدعي الحنين, المؤلم أنها ذكرياتٌ شوكيةٌ. الطلاب يصارعون الصراصير. مأساة أم ملهاة؟ نوازل أم مهازل؟ إن الخط الفاصل إنما يقع هناك في كتب الفلسفة ومدارس النقد الأدبي. الحياة تمسح هذا الخط تمامًا بدماء أبنائِها. فمن انفّكَ من لجام اللحظة الآنية وانزاحت من على عينيه غشاوة العجلة أبصَرَ.. أبصر بؤس الكوميديا, وعبث التراجيديا. ومن أبصر أدركَ. ومن أدرك الحقيقة قاتل بضلوعٍ مهشمة وقلبٍ تنغرسُ فيه كل يومٍ ذكرياتٌ شوكية جديدة.. (3) منذ رُحِّلتُ إلى وادي النطرون وأنا أقلُ اتصالًا بواقع الزنزانة والعنبر وأكثر استغراقًا في ذكرياتي الخاصة, وما ملكت يدي من كتب مستعارة. [مكتبة السجن مُغلقة كعادتها, أستعيرُ مما هرّبه السجناء قبلي في زياراتهم] الأعداد المتكدسة يستحيل معها الحصول على لحظة هدوء للقراءة أو الكتابة, لذا أخلف ميعاد نومي معهم, أستيقظ ليلًا لأقرأ على الضوء الخافت من مصباح الحمام الواهن, الوحيد المسموح باشعاله ليلًا. في الزيارة حذَرتني أمي من ضعف بصري تدريجيًا, وخافت عليَّ أثار العزلة الجانبية. أما البصر, فليضعف يا أمي إن لم يكن سبيل غير هذا للحفاظ على البصيرة. الظلامُ هنا يلتهم العقول ومن لم يقرأ, عَمِيَ. أما العزلة, فلا تخافي.. أتشرنق في ذكرياتي كي أستمد منها بعض القوة, وكي أحمي نفسي من تيار العقل الجَمْعيِّ الذي يجذب السجناء إلى التطرف.. أو الاستسلام. اللحظاتُ هنا ممتدة, مهيبة وتافهة في الآن ذاته, كالرمال. رمالٌ متحرّكة تجذبني إلى قاع الغياب, فلا أجد سبيلًا سوى التشرنق. أذكر مقطعًا من قصيدة لـ يحي قدري, كنت أردده كثيرًا في الخارج, الصحرا علّمتني إن البعيد عن العين أريح كتير للقلب وإن فاقِد الشيء
أحسن واحد يتكلَم عنه أودُ أن أخبره الآن: السجن والصحراء_ على عكس ما يبدو_ شبيهان في كثيرٍ من الأمور يا يحي.. خرجتُ من شرنقتي إلى نشاط العنبر مرتين, الأولى ألقيتُ قصيدة الجسر, والثانية كتبتُ وأخرجتُ عرضًا مسرحيًا قصيرًا, ساخرًا من بعض أمراض المعتقلين, وتحديدًا أمراض التيارات الإسلامية: “إدعاء البطولة, الفُرقة, التدين الظاهري, التطرُّف..” الغريبُ أنَّ الجميع تقريبًا تقبّلوه, وأثنوا عليه. ربما لِكَوني غير منتمٍ لفصيلٍ او جماعة. لو صدرت هذه الانتقادات من فصيلٍ لآخر لأعلنوا الحرب داخل الزنازن. أو ربما قبِلوه لأنّ هذه هي حقيقتهم التي _بعد أن أجبرنا الاعتقال على الحياة لعامين سويًا_ لن يستطيعوا إخفاءها عن أنفسهم, وعنّي. ثمّ؟ إلى شرنقة الذكريات مرةً أخرى; غبتُ, واعتزلتُ حياة الزنزانة والعنبر باستثناء التزامات الطعام والنظافة العملية طبعًا. في كل مرة أحاول ألا يكون غيابي انسحابَ مهزومٍ, بل استراحة محارب. ليس غياب إحجامٍ عن مواجهة السجن, بل هو غيابُ إقدام على مواجهة الذات والذكريات والسجن نفسه وتحديّهم بالاستمرار في الكتابة. أغيبُ, لأكتبَ.. فأحضر. داخل هذه الشرنقة كتبتُ ديواني الأول: الرقيم. أصرَرْتُ أن يكونَ النشرُ _ولو إلكترونيًا_ في يوم 5 مارس 2016, كان اعتقالي يوم 5 مارس 2014. لن أتركهم يرسمون خارطة ذكرياتي كيفما شاءوا, هكذا فكَّرتُ. أعرفُ أن الطاغية الذي يستبّدُ بوطني يستطيع تحديد كيفية التعذيب ومدة الاعتقال بنفس البساطة التي حدد بها تاريخُه.. بسلطان السلاح. لكنني أستطيعُ تحويل العذاب الذي جرّعني إياهُ إلى نصٍ شجي أنا من يؤلِّفُ ألحانهُ لا هو. أستطيعُ تحويل العامين اللذين سرقهما من عمري إلى عشرين عام أضيفهم إلى خبراتي ومعارفي وأستطيع تحويل تاريخ اعتقاله لي بالسلاح إلى ذكرى انتصاري عليه بالقلم.”