محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال الثالث عشر.. القَلَمْ الذيِ أَفْلَتَ من التفتيش

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 12/3/2016

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

المقال الثالث عشر.. القَلَمْ الذيِ أَفْلَتَ من التفتيش

المقال الثالث عشر
“القَلَمْ الذيِ أَفْلَتَ من التفتيش”
(1)
وكأن ثورًا بريًا هائجًا كان يصارع غريمه على أنثى فائقة الجمال داخل زنزانتنا. خَرِبَةً تركوها لنا. الملابس, البطاطين, أقفاص الخوص, الحبال, سلوك الكهرباء, بقايا الأرضية المحطمة, كلُّ شيءٍ صار في كومةٍ واحدة. هكذا يفتشون عن المخالفات التي لم تدخل باب السجن إلا بعد أن دخلَ المعلومُ جيوبهم. في ساعتين حطموا ما بنيناه في زمن.
لم يكن ذلك أول تفتيش, كان أكثرهم همجيةً. [اللعنة! ماهذا؟ كم من الوقت والجهد يلزمنا لنُطيَّبَ جراحها, لقد اغتصبوا روحها اغتصابًا. لن تعود الزنزانة كما كانت ثانية. أعرف.] لم أكن وحدي, كلنا عرفنا هذه الحقيقة مع أول نظرة للزنزانة بعد تفتيشها. لذا, لم نسارع –بنشاط ونظام نملٍ, وخفة وابتهاج نحلٍ كعادتنا- لإعادة بناء الزنزانة. انتحى كلُّ منا ركنًا صامتًا. جذبتُ بطانية. كوَّرتها, ثم تكوْرتُ فوقها, وأطبقتُ جفنيَّ..
* * *
فتحت الجفنين المثقلين ورأسي أسفل الصنبور. بعد أسبوع كامل في الظلام, تُصابُ الحدقات بارتباك مؤقت من الضوء هُناك, في دورة مياه نيابة أمن الدولة العليا تحت المياه التي ألمسها لأول مرة برغبتي لا مُجبرًا, بدأت أستعيد القدرة على الإبصار الطبيعي تدريجيًا. شهقت وزفرتُ ثلاثًا, ورفعت رأسي لأفاجأ بالمرأة أمامي: كدمة أسفل العين اليمنى.. تورُّم في الشفة العليا.. جرحٌ متخثرٌ أسفلَ الذقن.. وعينان تائهتان.. [من هذا؟ كم من الوقت والجهد يلزمني لأستعيد وجهي؟ حتى إن استعدته, لن أعود كما كنتُ ثانيةً. أعرف.] عرفتُ هذه الحقيقة مع أول نظرة بمواجهة المرآة. لا إراديًا حاولتُ رفعَ يدي لأتحسس وجهي. لم أستطع. اكتشفت أنها مازالت مقيدة في كلبشها إلى يد مجند الأمن المركزي المكلف بحراستي.. “كفاية كده. يلّا يا أستاذ” ومضيتُ مَعَهُ إلى غرفة التحقيق ولم أتحسس وجهي. إلى الآن, بعد أكثر من عامٍ , لم أتحسس وجهي..
(2)
أخذوا فردين منّا لزنازن التأديب, أخذوا الكتب أجمعها, وجميع وسائل الترفيه, وأمروا بإغلاق الزنزانة بلا تريضٍ لأسبوع كعقابٍ للباقين. رتبنا الزنزانة ما استطعنا. ضحكنا لتذكر وجوه الضباط المذهولين وهم يكتشفون مخابيء المخالفات. قطعةٌ من بطانية, مزقوها, ربطناها بين زجاجتين متباعدتين, فصارت شبكةً. كَسْرَا طبقين صارا مضربين. وبليةُ مزيل العرق الذي كسروه صارت كرةً. وأرضية الزنزانة بتخطيطٍ بسيطٍ صارت طاولةً. مرحى, بطولة تنسْ طاولة الزنزانة يا رفاق. من يشارك؟ فليتركونا أسبوعًا آخر بلا تريُّض. صنعنا –رغم أنوفهم- تريُضنا الخاص. لعبنا حد الإنهاك فالنوم. لم أنَمْ.
قلمُ واحدٌ قد أفلت من التفتيش, كنتُ استخرجتُه كمن وجدَ كنْزًا تحت الأنقاض. ظهر مذكراتي الدراسية الأبيض يصلحُ للكتابة. حسنًا, أحتاج أن أكتبَ نَصًا جديدًا.
ماذا أكتب؟ فلأسرد ما حدثَ مثلًا.. لكن السرد التفصيلي لن يوصلَ لقاريءٍ حقيقة الحياة داخل السجون منذ المقال الأول وأنا أحاول تشريحها ووصفها.. لم أنجح. يستحيل سكب البحر في قارورةٍ, كما يستحيل سرد الحياة في نصٍ, هذا سببٌ. والآخرْ, الأقسى, هو كون كل سجنٍ بل وكل عنبر داخل نفس السجن أحيانًا له نظامُهُ الخاص. هل قلتُ نظامَهُ؟ عذرًا. أخطأتُ. لهُ عبَثُهُ الخاص.
الزيارة –كمثال- تتراوح بين دقيقة في الأقسام وبين قُرْبِ الساعة في بعض السجون, من يُسمح بدخولهم, وما يسمح بدخوله متباين بين المنع التام والإتاحة التامة. سجن تتمكن من مجالسة أهلك لدقائق, وآخر تقف معهم يفصل بينكما سلكٌ, حيث تصبحُ أقصى استطاعتك لتطيب خاطر أمك إن بكت أن تمسَ أصابعها عبرَ الأسلاك, وثالثُ يفصلُ بينكما سلكان المسافة بينهما مترٌ كاملٌ, حيثُ تُحرَمْ من ترف ملامسة الأصابع, ورابع تُمنعُ الزيارةُ فيه لشهورٍ بلا سببٍ..
كمثالٍ أحمق, الصراصير في السجون المختلفة. عدد الصراصير, نوعيتها, حجمها, كفاءتها في إصابتك باللدغات –لم أصدق أنها تفعل إلا بعد أن لدغتني نائما- ومزاجها في انتقاء الأطعمة, وكيف يتحول المرء من القرف التام لرؤيتها إلى التصالح معها:
“أيتها الصراصير اللعينة, لكِ منا الأطعمة الثمينة, على أن تعاهدينا الاختفاء طوال النهار, وعدم الظهور في الأنوار. لكِ أن تتجوَّلي في الظلام, واتركينا ونتركَكِ لنعيش معًا في سلام”
هذا نص المعاهدة التي أبرمتها مع صراصير سجن المنصورة. لكنهم نقضوها. الخونة.
(3)
المعرفة قوة. الآن وقد جرّدوني من كل أشكال القوة الأخرى, لم يبق لي سواها. سأطلب من أهلي طباعة وإحضار لائحة السجون المصرية في الزيارة التالية. هكذا كنت أفكر في أسابيع الاعتقال الأولى. نصحني أهل الخبرة أن أشغل وقتي بما ينفع, وكانوا صائبين. فنظرة القائمين على السجون إلى اللائحة لا تختلف عن نظرتهم إلى ورق الحمَّام. معرفتك أو جهلك بها لن يُغيِّرَ شيئًا. طبيعة السجن تتغير وفقًا للتعليمات القادمة “من فوق”, أو وِفقًا لمزاج الباشا. فهو قد يعجز أمام زوجتهِ ليلًا, فيأتي صباحًا ليتقيّأ أمراضَهُ النفسية على رؤوس المعتقلين. لا لائحة. لا نظام..
* * *
الشعب.. يريد.. إسقاط النظام, الشعب.. يريد.. إسقاط النظام. والأهالي في الشرفات –نفسهم من يلعنوننا الآن- يهتفون معنا, أو يلوحون بالأعلام. ربما كانوا يعلقون آمالًا أن تتغير حياتهم البائسة إن استطعنا تغيير النظام. لم ننجح بعدْ.. ذلك أن الفساد, البلطجة, البيروقراطية, القمع, والخنوع ليسوا نظامًا, إنما هم النيران التي ينفثها الوحش الأسطوري المدعو نظامًا عبر إعلامه وقضائه وشرطته وجيشه. مجموعةٌ من العساكر يغرسون فوهات بنادقهم في أعصاب وشرايين البلاد, هذا ما قد تراهُ, لكنَّ النظامَ يتخفىَ في كل شيءٍ.. في عقول الناس وخلف رغباتهم, حتى لَيسْتَحيلُ علينا رؤية النظام منفصلًا عن الشعب نفسه.
الشعب.. يريد.. إسقاط النظام. حسنًا, هيا بنا.. لكن أخبرني قبلًا, أين هو النظام أصلًا؟! إحم.. لقد وقعنا في الفخ.
(4)
ما هذه العشوائية؟ عن أي شيءٍ يتحدثُ هذا المقال؟ التفتيش؟ التعذيب؟ السجون؟ أم الثورة؟ أم أنني أكلّمُ نفسي على الأوراق لا أكثر؟ أخبرني صديقٌ: “مقالاتك لم تتخذ خطًا واضحًا يبيّن لنا حالتك النفسية. تبدو مؤمنًا يائسًا, مُشرِقًا مُهشمًا في نفس المقال أحيانًا. لا أريدُ مقالاتٍ. اخرُجْ. خروجك سيُرممُ فيَّ..” هل أستطيع مساندة أصدقائي إن خرجتُ حقًا؟
لقد تغيرتُ. جدًا. قال لي آخرٌ: “كلنا تغيرنا.. حين تخرجْ سنعيدُ اكتشاف بعضنا البعض..”
يقول أبي: “سِبْها لله. ربنا كبير”, تقول أمي: “خَلِّ بالك على نفسك”, أختي: “أوحشتني”, أخي: “اجْمَد..”, وتقول هي: “سيمرُ كُلُ شيءٍ, لنصيرَ معًا يومًا ما, أحبُكَ..”. كُلُّ يقولُ آخر كلمةٍ قالتها هي بطريقته الخاصة.
ولأنني أحاولُ – بطريقتي الخاصة- أن أكون جديرًا بالكلمة التي قالها كُلٌّ بطريقتهِ, أكتب. الكتابةُ مقاومةٌ. لا أريدُ أن أمسخَ. لا أريد أن يتمكن مني صمتُ الجدران فيدفعني لاعتياد العزلة حدَّ اللامبالاة بالآخر. لا أريدُ أن تتمكن مني قسوة الحديد فتحطِّمَ ما تبقى فيَّ من رغبةٍ أو قدرةٍ على عطاء الآخر أي شيءٍ
لأحميَ نفسيَ.. أكتبُ. لأنني لم أسْتَسْلِمَ بَعْدْ.. أكتب.
محمد فوزي