محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال الثامن “ريتاج, لن نَمَل من المحاولة يا حبيبتي”

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 9/29/2014

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : سجن المنصورة العمومي

المقال الثامن “ريتاج, لن نَمَل من المحاولة يا حبيبتي”

المقال الثامن “ريتاج, لن نَمَل من المحاولة يا حبيبتي” هل كان أدرينالين البدايات هو المحرك الأساسي لي لأكتب عن “اليقين”, “الثبات”, “النصر”؟ بالطبع لحماسية البداية دورٌ ما دائماً.. لكنه لا يفسر كل شيء, فالأفكار التي مررت عليها في رسائل أو مقالات سابقة لم تقفز لرأسي فجأة مع بداية الاعتقال, فالعزلةُ لا تخلق الأفكار, العزلة تُبرز ما كان كامناً فينا قبلها, مع شهور السجن الأولى اتخذت هذه الأفكار صورة, ثم خَمَدَت قليلا فتوقفتُ عن الكتابة, خمدت لا لتنتهي إنما لتتطور. أين تذهب الكلمات بعد أن ننطقها؟ تفنى؟ تتحلل بين ذرات الهواء؟ للكلمات أصوات, الأصوات ذبذبات, الذبذبات طاقة. معروفٌ علمياً أن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من عدم, لكنها تتحول من صورة لأخرى, وهناك فرضية علمية تقول أن الأصوات منذ آدم إلى الآن مازالت في الغلاف الجويِّ وربما يمكننا ذات يوم استعادتها وسماعها. ماذا عن الكلمات التي لم ننطقها؟ أعني ماذا عن الأفكار والمشاعر؟ هل تفنى داخلنا؟ لا. معروفٌ علمياً أيضا أن عمليتيِّ التفكير والشعور يصاحبهما تغيرات كيميائية وكهربية في أدمغتنا. إذن للأفكار والمشاعر طاقةٌ ما.. لا تفنى. ما علاقة هذا بالاعتقال؟ حسناً, إن وجدتَ بنفسِكَ الرغبةَ وبوقتِكَ المتسع الكَافِيينِ لِتواصل القراءة, فتعالَ معي نعبر سريعا على سطورٍ تتحدث عن “الروح”, بعدها يتضح كل شيءٍ جلياً. “قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي “. الروح من أمر الله. الله هو الخالق والمصدر الأول والأوحد للطاقة. ربما تكون الروح هي ذلك المفاعل الذي خلقه الله ليحتوي الطاقات, ويشرف على تحولاتها, وينتج إما حياة بؤسٍ إما سعادة. الروح –وما بها من طاقات أفكار ومشاعر- لا تفنى. تتناول هذا المعنى أساطيرٌ عديدةٌ في التراث العربي والغربي. هاملت لـ شكسبير, الفتى الذي تظهر له روح والده الملك القتيل لتخبره بالخيانة وتطالبه بالثأر. وعند العرب قديما أن روح القتيل –خاصة إن كان مغدوراً- تتحول طائراً, يظل يحوم حول موضع القتل وأهل القتيل صائحاً فيهم” اسقوني.. اسقوني..” إلى أن يتم القصاص, وتشرب من دم القاتل, فترتاح أخيراً. ماذا عن روح السجين؟ أظن أن روحَهُ –خاصةً إن كان مظلوماً- تبقى, أو يبقى جزءٌ منها في السجن حتى بعد خروج صاحبها. تحوم الروح, لكنها لا تصيح, تغني, تدعو, وتربّت على أكتاف السجناء, واعِدَةً إياهم بغدٍ فيه يُهدَمُ السجن ويُسْقَط الظلمُ, لترتاح هي, وترتاح أرواحهم جميعاً أخيراً. هل رؤيتي هذه خيالية؟ ربما. حالمة؟ يجوز. أليس الخيال والأحلام هما الوسادة والغطاء في مهدٍ يُعَدُّ لتربية الرغبة؟ والرغبة إذ تكبر وتخوض التجارب تحصد العلم. والعلم إذ يصادق الصبر يملكان القوة. والقوة إذ تتزوج الإنسانية ينجبان قيم العدل, الحق, الخير والجمال اللازمين لخلق واقعٍ جديرٍ بالحياة. لذا حين يهمسُ خيالي وأحلامي لروحي قائلين”سيسقط هذا الظلم, ولو بعد حين” أصدقهما. أصدق أن الطواغيت سيُحاسَبون ليس فقط على المجازر والمذابح الكبرى, بل أيضاً على كُلِّ شوكةٍ غرسوها في تفاصيلنا الصُغرى.. حين تكبر ريتاج –طفلة أختي إيمان التي لم يتجاوز عمرها شهرين- سأخبرها عن أهمية التفاصيل وقدرتها وطاقتها الفاعلة. سأعلِّمُها أن حضن بابا وقبلة ماما كل صباح يمكن تحويلهما لطاقة تفوقٍ, إبداعٍ وبهجةٍ لكل من حولها. سأخبرها أن أمها هي أمي أنا أيضا بشكلٍ ما, فإيمان وإن كان الفارق العمري بيننا صغيراً تحتل في روحي موضعاً قريباً من الأم. سأخبر ريتاج كيف خططتُ وخططتُ كثيرا منذ تزوجت “ماما” لاستقبالها.. وكيف قرر حماة الوطن في شرطة البلاد فجأة أني إرهابي خطير, يجب منعي من تنفيذ خططي بجدران السجون, حتى وإن كانت هذه الخطط هي أن أُقَبِّلَ جبين أختي بعد مولودتها الأولى, أو أن أجمع أطفال العائلة لنقيم “سُبوعاً” يليق بانضمام الضيفة الجديدة لجيش المشاغبين الصغار. سأحكي لها عن جيلٍ حاول –وسيبقى يحاول- أن يُسلمَها الدُنيا أجملَ ولو قليلاً مما استلمها هو.. حين تكبر ريتاج, سأخبرها. وأحكي لها.. كل شيء.. لا أحب دور الضحية البريئة التي تشكو من قذارة الظروف. ولم أكن, ولا سعيت لأكون في دور البطل المغوار الذي يَعِدُ أن يطيح برؤوس الطغاة بضربة من سيفهِ البتار. لست هذا ولا ذاك. كل ما أنا متأكدٌ منه هو كوني غضبت وتألمت لأني مُبعَدٌ عن إيمان وريتاج, ألما لا يقل عن ألم أول صفعة تلقاها وجهي من “الباشا”.. ومتأكدٌ أيضاً أن طاقة الألم والغضب هذه ستتحول من صورةٍ لأخرى إلى أن تنسج حبل مشنقةٍ لمن تسبب فيها. ثم أني لست وحدي, نحن كثيرون. جداً. “عدلي”: الإعلامي الثلاثيني المثقف, الذي قضى أكثر من عامٍ حتى الآن في تحقيق مُطَوَّل بتهمة “محاولة نقل الحقائق إلى الناس” “أحمد عاطف”: الشاب العشريني البسيط الذي حُكِمَ عليه بعامين نظراً لخطورة الحرز الذي تضمه قضيته.. طبلة! “عم جمال”: الأربعيني القصير المرح, الذي يقفز دوماً فوق خلافات الفكر والانتماء ليعاملني بودٍ حقيقيٍ, عم جمال ذو الضحكة العبقرية الصادقة حد انتزاعك من ذاتك وتذويبك في خفتها, لتُفاجَيءُ بنفسك, أنت المُثقل بالهمِ, تضحك معه من أعماقك, عم جمال استيقظتُ فجراً على صوته وهو يؤذن, متحشرجاً بالدمع. كان يفكر في أبنائه وزوجته في ثاني يومٍ له بعد حُكم المؤبَّد.. نحن كثيرون. نحن نلعن السجان مع كل لحظة يُعاني فيها واحدٌ منا. نحن نملك طاقةً تقدر أن تنفذ عبر الجدران المكانية وتتخطى الحدود الزمنية. الأعمارُ تمضي. الأجساد تفنى. والطاقة أبداً لا تفنى. نحنُ أبقى. ولن نَمَلَّ.