محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال العاشر

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 11/10/2014

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

المقال العاشر

المقال العاشر
“سنقاتلهم بالرقص”
“كلما اتَّسع وعيك, احتد ألمك”. جملة كنت أظنها حقيقة كونية إلى أن سُجِنتُ فتأكدت أنها ليست سوى مراهقة فكرية. أن يعي إدراكك الوساخة والبؤس والقهر الذين يغمرون مجتمعك لهو أشبه بأن تخرج عارياً في العاصفة. إن لم تخرج, تأمن أذاها مؤقتاً, لكنك تظل سجين ذاتك, وإن خرجت فلا مفر من بعض المعاناة والصفعات التي يصفعك إياها الواقع. لكنه يبقى واقعــكَ” أنت”. بوسعك ترويضه إن تحاول.
أن تنحني للعاصفة, جبنٌ. أن تقف في وجهها, حماقةٌ. ما رأيك أن تراقصها؟
مراقصة العواصف مهارةٌ لن تتعلمها بالقراءة ولا بتبادل الخبرات. فقط بالتجربة تتقنها. بوسعي أن أقول أني استطعت مراقصة عاصفة “التغريبة”.
“التغريبة لا تعني حالة “الغربة” التي يصفُ بها الروائيون أبطالهم الحائرين المنفصلين عن مجتمعاتهم, ولا تعني “الاغتراب الإنساني” الذي وصفه سارتر كمقدمةٍ مؤدية لفلسفته الوجودية, وكذلك لا تعني مقام “الاغتراب الصوفيّ” الذي يصفه المتصوفون في رحلتهم وصولا للحب الإلهي الخالص. “التغريبة” التي أقصدها ليست أياً مما سبق, وإن كان بها مسٌ كبيرٌ منهم..
“التغريبة” في لغة السجينات والسجناء عقاب. عقابٌ يرتعدُ منه أعتاهم إجراماً. من يرتكب مخالفة جسيمة لا يُوضع داخل زنزانة تأديبية, وإنما يُرحَّل من سجنه الحالي إلى سجنٍ بعيدٍ ليقضي هناك وقتا لا يعلمه, وربما يُرحَّل منه لآخر حيث يقضي وقتا لا يعلمه. وهكذا دواليك. كعبٌ دائرٌ. تغريبةٌ “دائمةٌ. ناهيك عن تعب الأهل جرياً خلفه من سجن لسجن, يبقى السجين نفسه كنبات متحرك, لا يكاد يمد جذوره في الأرض التي يطأها حتى يُنتزع منها مُرحَّلاً لأخرى..
الصداقات التي تُوأَدُ في مهدها.. الأنفاس التي لا تكاد تألفُ هواء الزنزانة الجديدة فتُلقي إلى هواء عربة الترحيلات الخانق, النَتِن. العيون المُسهدة التي يؤرقها سؤالٌ في منتصف الليل “هل سأتناول فطور الغد مع الرفاق الزنزانة؟” .. سؤالُ قد يبدو لمن لم يعانِهِ تافهاً, ويعرف من عاناه كم هو منهك لأكثر الأعصاب تماسكًا.. منذ سجنت وأنا في “تغريبة” .. ليس كعقاب, فقط لظروف تواجد النيابة والسجن الأساسي لي في القاهرة والمحكمة والكلية في المنصورة, ومع الوقت تعلمت كيف أضرب جذوري ولو في رمال متحركة وكيف أراقص أمواج أعتى العواصف: واحد.. اثنان.. يمين.. يسار.. هيا .. اقفز فوق هذه الكارثة, أحسنت. مِلْ يسارا وتجنب الفاجعة القادمة.. رائع.. الآن دورة كاملة تودع بها الرفاق قبل الخطوة التالية. ذراعيك افردهما على وسعهما, لن تجد أحدا لتحضنه.. لا يهم. دُرْ. حاول الاحتفاظ بتوازنك وأنت تتراقص بين مآساتين. ارفع يديك عالياً.. نظرة للسماء.. الأرض ملأى بالمذابح والكوارث والدماء.. لكن في السماء إله رحيم سيساعدك لتمضي قدما.. لا تنسَ.. ابتسم.. لَوِّح لأمك التي تقف هناك.. وحيدةً, حتى إن لم تكن تراك, قلبها سيُحِسُ بِكْ.. لَوِّحْ لها وأَعْلِ صوتك: “لا تخافي عليَّ.. كبُرت”
“العجز” أكثر لفظ تردد في الرسائل التي تبادلتها مع أصدقائي, شعورك أنك لا تملك لصديقك المعتقل شيئاً قاسٍ حقاً. لكن اسمح لي أن أقول لك – صديقي- إن شعرت فقط بالعجز لكون الظلم قد طالني وأنت لم تستطع مساعدتي, فهذا أنانيةٌ منك. لماذا؟ لأن الظلم في وطنك كان ومازال يرتعُ, وأنت لم تنتبه له إلا حين طال دائرتك الخاصة..
أقول لك إن شعرت بالعجز لأن هناك “إنسانا” ما يعاني في وطنك, إن كانت مشاعرك لكل كل المعتقلين, فهذا أحد أشكال الطفولة الفكرية. اسمح لي أن أخبرك أن الظلم قديم في الأرض قدم الإنسان. لم, ولن ينتهي إلا في العالم الآخر. المدينة الفاضلة وهم. الأرض ليست جنة. وليست ناراً. الأرض أرضٌ. لا تنسَ هذه الحقيقة.
لا أدعوك أن تكف عن أحلامك بغدٍ أجمل, فالأرض تحتاجُ هذه الأحلام كي تبقى أرضاً. وبالطبع لا أدعوك إلى اللامبالاة, فالاعتياد والتبلد –رفاق اللامبالاة- هما أكبر هزيمة يُبلى به شعبٌ, وأكبر نصر يحققه طاغيةٌ. أدعوك إلى الاستمتاع بالحياة كما هي.. حياة. أدعوك أن تبقى حراً, لا تسمح لهم أن يسجنوك داخل قضبان العجز الوهمية. أدعوك لعقلية “المقاومة”. أدعوك لا إلى الانحناء للعاصفة ولا إلى الوقوف ببلاهةٍ في وجهها. أدعوك إلى تحديها, راقِصْ العاصفة ما استطعت..