محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال الثاني عشر – احتفالٌ دمويٌ بهيج

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 2/25/2015

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

المقال الثاني عشر – احتفالٌ دمويٌ بهيج

المقال الثاني عشر
“احتفالٌ دمويٌ بهيج”
(1)
ما بين ثلث الساعة في سجن المنصورة وثلثيها في طرة هي الزيارة المتاحة, بمتوسط وقت نصف ساعة إسبوعياً نحصل على ساعتين شهرياً… نحصل على أربع وعشرين ساعةٍ سنوياً.. “يعني أنا هقضي مع أهلى يوم في السنة” , هكذا أوضح لي الحسبة مصطفى.
وضحك!
السنة مرَّت يا مصطفى, أيام ونحتفل بذكرى اعتقالنا, نعم.. نحتفل, بجملة العبث الذي نحياه فلنفعل, هذه ليست احتفالية عيد ميلاد أحد الرفاق التي كنا نعدها معاً. لن نتناقش في محادثة إلكترونية جماعية لنتفق كيف نباغت الضحية بمفاجأة تجعله يشهق.. لنُجدد نشاط عضلات رئتيه التي تستنشق هم البلاد دوماً.. هذا الاحتفال لا يخص أحداً سوانا.. لن يستطيع الاشتراك به أحدٌ سوانا.. سنجتمع أنا وأنتَ هنا فقط..
ونضحك.
بما أني لا أعلم هل سأُرَّحل للمنصورة لألقاك في الخامس من مارس أم سأبقى في طره, أقمت الاحتفالية على الأوراق هنا.. هل تذكر شهور الاعتقال الأولى حينما كنا نتبادل الرسائل على جدران حبس خانة نيابة أمن الدولة العليا؟ كلٌّ في سجنه, وبموعد جلسات مختلف يترك رسالة للآخر وينتظر الرد في الجلسة التالية. مابين أسماء المعتقلين, وصرخات احتجاجهم, ونصائحهم للمعتقلين الجدد, اثنان يتبادلان مزاحاً.. “أنا تخنت شوية ياض..” .. “إيه آخرة السكة يا أبو الأفواز؟” .. “أنا هتجوز وأقعد في البيت” ربما يأتي -قبل إعادة تبييض الجدران- من يقرأ رسائلنا تلك..
ويضحك.
(2)
أذكر في أول ليلة نلتقي في سجن المنصورة للامتحانات, أخبرتني أنك لن تترك العمل المجتمعي/الخيري ما حييت, وأخبرتك أنني لن أستطيع الفكاك من الكتابة حتى إن حاولت.. جيد جداً, يبدو أن لكلِّ منا غاية تستحق الحياة لأجلها بعيداً عن انشغالات المعيشة اليومية.. لكني أفكر معك الآن: ما جدوى سعيك لإعانة محتاج إن لم تسع حقا لتغيير النظام الذي يُعُريه ويجوّعه؟ ما جدوى الأدب أو الفن إن لم يسع أصحابهما لتغيير النظام الذي ينسف ما بهما من القيم والجماليات نسفاً؟ أعني ما جدوى الأحلام بغدٍ أجمل إن نحن أسلمنا يومنا لنظامٍ يعبد القبح, ويقطع رأس من يأبى السجود له؟ هكذا تصبح الأحلام مخدرات كتلك التي يبيعها تجار الدين بين تصور خاطيء لأتباعهم يدعوهم أن يبيعوا الأرض لشراء ملكوت السماء/جنات تجري من تحتها الأنهار.. لن نتاجر في المخدرات يا مصطفى, العمل المجتمعي, الفن, الدين كما أفهمهم ينبغي أن يكونوا منشطات بشكلٍ ما, لا مخدراتٍ, منشطاتٍ تدعونا لإعمار ملكوت الأرض جنةً نُستخلفُ فيها من الله وصولاً لجنّات الخلد..
إن أردنا.
أنت تفهم ما أعني, تفهمه جيداً, أثق بهذا, لكني سأواصل رغبة في البوح –كعادتي- وأنت ستنصت وتتفهم رغبةً في مساندتي –كعادتك أيضا- أقول لك: أنا أبغض ذلك الدور الذي تقمصه كثيرون من جيلنا, وأشمئز فعليا من تلك العلكة التي يلوكونها بعد أن لاكتها قبلنا أجيالٌ زماناً, علكة “لقد حاولنا وفشلنا”, “نحن جيل ضحية”.. أنا ألعن ذلك الدور الدراماتيكي الذي يصعد فيه البطل خشبة المسرح باكياً مولولاً, ليستدر مشاعر الجمهور ويحصد تصفيقهم الرخيص عطفاً.. هذا رغم أن وقت العرض لم ينته بعد, رغم أنه يستطيع تغيير النهاية المأساوية..
إن أراد.
لماذا؟ لماذا يستسلم من لم يتجاوز الثلاثين بعد؟ يكتئب مؤقتا؟ هذا حق مشروع. يُنهَك؟ يبكي؟ يصرخ في وجه الجميع؟ هذا أمر طبيعي جداً أما أن يترك راية حلمه, ويرفع راية استسلام بيضاء فهذا ما أعدِّه خيانة حقيقية. ربما لم يلحظوا أن الراية ليست بيضاء تماما يا مصطفى.. الراية عليها آثار ملح جاف من دموع أمهات, وزوجات, وأطفالٍ.. أولم يتعلّموا أن هناك –ليس بعيداً- على أرض فلسطين بشرٌ, شبابٌ باعوا أنفسهم لله, لا ليشتروا جنات الغيب وحرية الغد فقط بل ليشتروا سعادة اليوم, هنا.. والآن.. حيث يحيا كلٌ منهم, يكبر, يدرس, يحب, يتزوج, يربي أبناءه, ويبتهج في نفس اللحظة التي يقاتلُ فيها. لا أتحدث عن أسطورةٍ, أتحدث عن أمرٍ جُرِّبَ ونجح بالفعل..
لمن أراد.
(3)
لا أعرف لِمَ طفت لسطح وعيي الآن ذكرى العرض المسرحي القصير الذي أعددناه معاً, في احتفالنا بالعيد داخل سجن المنصورة. من مَثَّل؟ مجموعة من طلاب كلية صيدلة المنصورة من مختلف الانتماءات السياسية. من شاهد؟ مجموعة من المعتقلين يقضون عيدهم بعيداً عن أحبتهم, ومع ذلك قادرون أن يتفاعلوا مع العرض أن يقهقهوا ويصفقوا ويهتفوا بعلو صوتهم. المحتوى؟ مشاهد عن تفاصيل حقيقية لتعذيب وسحل ومعاناة داخل السجون في إطار ساخر.. أذكر قرأت سابقاً عن أهمية الفن, عن جوهر الكوميديا كما قال أرسطو-تقريبا- بتعرية نقصان الناس وعيوبهم.. ليضحكوا.. ويواجهوا.. فيُغيّروا. كان هذا محض قراءة نظرية حتى يوم العرض تأكدت من كونها حقائق. لم يكن عرضنا عبقريا يا مصطفى.
كان صادقا.
وافق يوم العرض عيد ميلادي, لم أكن منتبهاً -أخبرتك سابقاً أن إيقاع الزمن اختل داخلي- فوجئت بك وباقي الرفاق تحملوني لقفص الغسل والاستحمام الواسع, وتغرقونني مياها من كل الجوانب –الإغراق بالمياه أحد طقوس الاحتفال بمن يُفرَجْ عنهم- وسط ضحكات عالية وأمنيات وتهاني. كان صوت ضحكته مميزاً.. عرفات. زميلي الذي كانت علاقتنا في الخارج ما بين اختلاف, وشجار أحيانا, ونقارٍ كثيراً.. الآن يحملني ويحتفل معي.. هل كنت تتخيل يا مصطفى أن يجتمع ثلاثتنا للاحتفال بعيد ميلاد أحدنا يوما؟ لم يكن احتفالا ضخما..
كان صادقا.
(4)
انتقلت من ذكرى لذكرى, طقس البوح بالذكريات ذاك كان أساسيا في احتفالاتنا بالخارج, هل أسِّرُ لك بذكرى أخرى؟ في بداية الاعتقال كنت أبذل جهدا كي آلف السجن وأتغلب على غصة الهواء التي تصاحب الأيام الأولى, الآن أبذل جهدا كي لا آلف السجن, لم أعد أرغب اعتياد هذا الوضع غير الطبيعي, شعرة تفصل بين القدرة على المواجهة والمقاومة وبين اللامبالاة. لا أريد ان أقطعها.
ذكرى أخرى تطفو في أسبوع التعذيب الأول, “حد عطشان يا ولاد المتن***؟” ومن يطلب يغرقوه مياها باردة تقرص عريَهُ قرصاً. أتذكر هذا وأضحك حين أربطه بمشاهد تعذيب المؤمنين في الأفلام التقليدية. تفصيلةٌ أخرى لا تضحكني يا مصطفى. اشتد بي العطش مرة فتغابيت وطلبتُ مياهاً, أعطوني سيلا من اللكمات طبعاً. أنت تعرف أن لي سِنْة في الفك العلوى بارزة عن أخوتها, تتابعت اللكمات عليها وأدمت شفتي من الداخل, تبلل حلقي الجاف بدمي.. فشربت. بعدها, كنت أقاوم فكرة مرضية تدفعني أن أعض شفتي كلما عطشت لأشرب.. الآن, أقاوم نفس الفكرة على مستوى جديد, أريد ألا آلف السجن تماماً, آلفه فقط للحد الذي يسمح لي بالتغلب على العطش للفرحة, فأرتوي باحتفالي معكَ يا مصطفى.. دون أن أستمرأ طعم دمي..
محمد فوزي