محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال الرابع عشر – ولَكُمْ في السماءِ حياة

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 5/27/2015

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

المقال الرابع عشر – ولَكُمْ في السماءِ حياة

هناك, في سجن استقبال طرة, لا تُرى السماء إلا عبر شبكة أسلاك ضيقة الفتحات. في ساعات التريُّض المحدودة كنت أتحاشى النظر لأعلى. رغم اشتياقي لها لم أرغبْ, أو صدقًا لم أقدرْ أن أرى السماء مشوهةً هكذا. أما هنا, في سجن المنصورة, يستطيع المرء أن يرى السماء مباشرةً, يستطيع أن يهرب من ضيق الجدران الخانقة إلى اتساع السماء ورحابتها, وهذه نعمة –لو تعلمون- عظيمةٌ.
أوقن أنه متعالٍ عن الزمان والمكان. أعرف أن لا تدركه الأبصار رغم كونه عز وجل أقرب إلينا من حبل الوريد. لكنني إلى الآن لم أستطع تغيير الصورة الذهنية الفطرية التي آمنت بها أن الله هناك في الأعلى, ما علينا سوى أن نرفع أبصارنا إلى السماء ونهمس له.. ليسمع.. ويربِّت.. ويجيب. صورةٌ طفولية هي, تشترط التواصل البصري المباشر مع السماء كبابٍ أوحد إلى ملكوت الرحمن.
في السجن, تدبَّرت سورة يوسف مرارًا, كانت –مع سورة الكهف- مُحرِّكًا أساسيًا لي لكتابة نصٍ شعريٍ طويل لم أنتهِ من مسودته الأولى إلا منذ شهرين تقريبًا. مازلت أستعيد مشاهد من قصتها إلى الآن, مشهد الجُب تحديدًا. يوسف –عليه السلام- كان في القاع وحيدًا, شِبه عارٍ بعد أن سلبه إخوته قميصه. الخيانة, العري, البرد, والوحدة. تُرى فيمَ فكّر؟ بكى؟ صرخ؟ ناجى ربه؟ كلّم نفسه؟ أم صمت مصدومًا من خيانة الأقربين؟ لا أدري. المؤكد فقط أنه كان يجد أملًا ما كلما نظر لأعلى. الجب سلبَهُ كُل شيءٍ إلا نعمة النظر إلى السماء.
في سجن المنصورة, رغم لا آدمية الحياة بدون حمامٍ داخل زنزانةٍ مغلقة معظم اليوم, إلا أننا لدينا مزيةٌ رائعةٌ. قفص مياهٍ جماعيٍ بجوار العنبر, وبه كبائن استحمامٍ بلا سقفٍ. أستطيع أن أتعرَّى تمامًا يوميًا, فأسمح لأشعة الشمس أن تغسل روحي قبل أن تغسل المياه جسدي. أستطيع أن أنظر إلى السماء كل صباحٍ, أشهق بنفسٍ عميق, أنسى كل شيءٍ, أغيب عن كل ما حولي, وأصغي لنبضي.. أكاد أسمعُ صداه يرتَّدُ من السماء: “مازلتُ حيًا”.
السماء لا تبوح بأسرارها لزحام المدن, ولا المباني الشاهقة التي تحاول غرورًا نطح السحاب. ربما يمكننا رؤية السماء حقًا من خلال زاويتين فقط رغم تناقضهما: من كوّة جُبٍ/كهفٍ/سجنٍ, أو من مدى حقلٍ/صحراءٍ/بحر.
منذ ثلاث سنواتٍ تقريبًا, في أول تجربة لي مع الصحراء, جوار شلالات الفيوم, نظرت إلى السماء. تركتُ رفاق الرحلة وركضت باندفاع سهمٍ, أطلقتُ ساقيَّ للريح فعليًّا, كانت أطراف أقدامي لا تكاد تمس الرمال. أخطف نظرة للسماء. أبتسم. أركض. أنظر للمدى الرملي. أضحك. أندفع أسرع. ركضتُ حتى أنهكت تمامًا. خلعت التيشيرت وجلستُ ألتقط أنفاسي. تأملت السماء ثانيةً. شكرتها, ثم عُدت للرفاق مُنتشيًا.
قبل اعتقالي بأسبوع تقريبًا, في رأس البر, على الشاطيء الخالي, دعوتُ أصدقائي للركض. رفضوا.. ركضتُ وحدي. لم أكن أضحك كيوم الفيوم. كنت أنظر للسماء والبحر لعل أحدهما يُنجدني ويبتلع ذكريات فصلٍ دراسيٍ مكتظٍ. [اقتحام الكلية, اعتقالات, تحقيقات, فصل, سحل, دماء, عهر, وتعريصٌ مُقرفٌ.. عذرًا جئتكما يا صديقيَّ بحملٍ ثقيلٍ. جدًا] ألقيت حملي لَهما.. وركضت.
لا أعرف لِمَ يقترن تأمل السماء معي بالركض دومًا. ركضت هناك أيضًا, قبل اعتقالي بأيامٍ, في سانت كاترين. بدأنا تسلق الجبل منتصف الليل, وصلنا القمة فجرًا.أعلى القمة فكرتُ : لم أكن بهذا القرب إلى السماء من قبل. [ تصورٌ طفوليٌ كالعادة] لابُدَّ أن الراهب الذي شيَّد دير تعبُّدهِ هنا انتابته نفس الفكرة. لابد أنه كان يصلي, يبكي, ويضحك بأعلى صوت على القمة وحده. ضحكت, غنيّتُ, التقطتُ صورًا كثيرة, لعبت بالثلوج, وتمددت على ظهري أكلّم السماء.. حين عاد موعد الهبوط, بعد تخطي الجزء الصخري شديد الانحدار, على الطريق الرملي المتدرج, نظرت لها مودّعًا.. وركضت.
ركضت تحت سماء الفيوم, رأس البر, سانت كاترين, المنصورة –فجرًا بمحاذاة نيلها- ثم في الإسكندرية من قبل ومن بعد. أنا أحب هذه المدن. جدًا. تحظى الإسكندرية بمكانةٍ أكثر قربًا من رفيقاتها, لماذا؟ بالإضافة لسحرها, كون أختي إيمان تسكنها لهو سببٌ كافٍ جدًا لتصبح الأقرب لقلبي, أرضًا.. بحرًا.. وسماءً.
في السجن أركض أحيانًا, لكن بلا انطلاق فدومًا هناك سورٌ ما في نهاية كل ممر, لذا أركض بشكلٍ دائريٍ وأفكّرُ: اقترب موعد النطق بالحكم في القضية التي لُفِّقَت لي, إما أن أخرج لأزور سماوات مدني الحبيبة وأركض على أرضها –وهو احتمال ضئيل للغاية- وإما أن تُؤجل الزيارة لسنواتٍ لا يعلمها إلا الله..
“أنت متهم بالانضمام إلى جماعة أقيمت على خلاف القانون تسعى لتعطيل العمل بالدستور, وتهديد السلام المجتمعي.. والتعدي على حريات المواطنين.. تستهدف رجال الشرطة والجيش.. تدعو لتكفير الحاكم والخروج عليه, وتستخدم الإرهاب ضمن وسائلها لتحقيق أهدافها”
لو كانت حياتي روايةً, لتردد كاتبها ألف مرةٍ قبل أن يضعني أمام هذا الاتهام غير المنطقي, جماعة تكفيرية؟ أو حتى إسلامية تستخدم العنف؟ كيف؟ إلا لو كان الروائي يريد كتابة نصٍ غارق في العبثية..
حسنًا, فلأفترض جدلًا احتمالية الاتهام, فكما يعرف الجميعُ في وطننا العظيم “المتهم مُدانٌ حتى تثبت براءتُه”. فلنفترض . متى انضممت؟ من ضمني؟ كيف؟ لماذا؟ بماذا كلفتني هذه الجماعة المزعومة؟ هل من دليلٍ ماديٍ أو معنويٍ على انضمامي؟ أي دليل؟ كل هذه الأسئلة لا تجيب عنها تحريات الأمن الوطني التي تتهمني, فقط تذكرُ أن الجماعة “حاولت” ضمي!!
نفس التحريات التي تذكر أن صديقي مصطفى –الذي رأيته بأم عيني يُعتقلُ من سكنٍ طلابيٍ- ضُبط متلبسًا في شقةٍ أخرى يزعمون أنها وكرٌ إجراميٌ به سلاحٌ يكفي لإعلان الحرب!!
يستطيع القاضي أن يحكم وفقًا للمحضر والتحريات المكذوبين, فيفرّقني ومصطفى كلًا في سجنٍ مختلفٍ, ويستطيع أن يجمعنا أيضًا.. هناك.. حيث لا تعذيب, لا تلفيق, لا ظلم.. في السماء.
حبال المشانق المتكاثرة مؤخرًا في مصر, قد يراها كارهو السماء مُرعبةً. لكننا بنظرة طفولية تُحبُ السماء صدقًا, نستطيع أن نرى المشنقة المُدَلَّاة أرجوحةً تحمل صاحبها سريعًا إلى السماء.
عزيزي القاضي, فلتقض ما أنت قاضٍ. مصطفى وأنا نحب السماء التي دائمًا, ستظلُ وحدها تُؤينا..
محمد فوزي