محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – عن الشجرة, والفرع المُتعِبْ

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 12/27/2014

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

عن الشجرة, والفرع المُتعِبْ

“عن الشجرة, والفرع المُتعِبْ”
(1)
آخر يوم لكل معتقل خارج الأسوار يظل مُنطبعا في ذاكرته طبع الكي في اللحم. أذكره جيداً. “دكتور محمد موجود؟” لم ينتظروا إجابتها. فتشوا المنزل واختطفوني ومضوا. “خمس دقايق وهنرجعه لكم”. ولم تنتهِ الدقائق الخمس إلى الآن. لا أدري كيف استطاعت أن تنزل الشارع خلفنا بهذه السرعة. لم تبكِ. لم تدمع. لمحت شفتيها تتمتم بهدوء. عرفت من خطابها الأول أنها كانت تدعو لي. وحينما أفلتت يدي بمعجزة من قبضات المخبرين الخشنة, ولوحت لها.. ابتسمت. في العَرَبة, آخر ما رأيته, قبل أن تظلم الشاشة تماما بالغمامة التي أحكمها المخبرون على عيني, كان ابتسامتها. ابتسامتها ولا شيء سواها. أمي.
كيف؟ كيف يا أمي تعاملت مع الموقف بهذه البساطة وهذا الثبات؟ وكأنك تودعين طفلك صباح أول يومٍ ذاهبا لأول مدرسةٍ تأخذه منكِ. ترتعدين لفراقه أضعاف ما يرتعد هو, لكنك ترسلين له ابتسامة طَمْأنَة, يُخبّأها مع سندوتشاته,ويسد بها جوعه للأمان إلى أن يعود لأحضانك.
الطفل دخل المدرسة بعد المدرسة يا أمي. ذاكر. نجح. صار من الأوائل ليحصد رضاك. تشاجر مع أخصائي النشاط الشرير الذي منع زملائه من ممارسة النشاط, وانتصر عليه. امتن –ومازال- للأخصائي الطيب الذي ساعده. كَبُرَ. قرأ. صادق. فارق. انساق في علاقات مراهقة سريعًا ما انتهت. دخل الكلية التي أحب. كرهها. بدأ يتعرف لِمَ تعني هذه الأحرف “و, ط, ن”. ثار. تقهقرت ثورته. الجيش يحمي الشرطة, الشرطة تحمي البلطجية, الثلاثة يتعاونون لقنص الأعين وسحل الفتيات. رفاق الثورة يُمسَخون. أساتذة الكلية يشاهدون الشرطة والبلطجية يعتقلون الطلاب من معامِلِهم, ثم ماذا؟ لا شيء سوى الصمت والتعريص من الأساتذة الأفاضل. ثم ماذا؟ واجههم بحقيقتهم. أحالوه لتحقيقات. وأخيرا اعُتُقِلَ.. ومازال إلى الآن لا يسد جوعه للأمان سوى ابتسامتك المطمئنة. ينتظر زيارتك ليعُبَّ منها ما استطاع. يُخبئها من أيادي مخبري التفتيش. ينتحي ركنا من زنزانته.. يخرج ابتسامتك, ينام في أحضانها فيصحو مستعيدا ثقته في نفسه المثقلة وقدرته على مراقصة عالمه المخبول.
(2)
الجذع نما محاذيا للجدار محاولا أن يحمي باقي الشجرة. الفرع نما امتدادا أحدث عمرا للجذع, وأثقلَ حملا. أحمد, أخي, الفرع الأكبر لأبي. اعتقلوهما معاً.. بتهمة حيازة قلب, والشروع في رؤيتي مع سبق الإصرار والترصد خلال الثواني التي أعبر فيها من عربة الترحيلات إلى المحكمة.
الفرع الأصغر لم يبتعد كثيرا عن الشجرة. لم يختلف الابن عن الأب والأخ كثيرا, فهو مثلهما لم ينتمِ لأي اتجاه أو حركة أو جماعة بعينها. هو مثلهما لا تشغله السياسة كسياسة.. لم ينشغل بها إلا لأنها تدخلت بينه وبين أصدقائه: فاعتقلت, وفصلت, وطاردت.. السياسة هي التي تدخلت بينه وبينها [كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ -أمل دنقل ] فصار يرى في عينيها, في عيني أخته, في عيون صديقاته, وأحيانا في عيون فتاة عابرة لا علاقة له بها, يرى في عيونهن جميعا عجزه عن حمايتهن من الاعتقال العشوائي, أو السحل بأيدي “رجال!” الشرطة. السياسة هي التي مازالت تتدخل بينه وبين عائلته بأن اعتقلت أباه وأخاه وهو أبعد ما يكون عنهما..
لا أدري هل سيعذره أبوه بعد كل ما حدث, على انفلات لسانه المعتاد, حين يكتب في مقاله بصراحة يظنها من يظنها وقاحة: “إن النظام الحاكم لبلادنا الآن أنجس من دُبرِ كلبة”
-بابا
-نعم؟
-ما تجيب بوسة
-سيبك م الحركات دي وهات م الآخر. عايز إيه يا مُتْعِب؟
يبدو أن الابن “المُتْعِبْ” سيظل يُحَمِّلُ عائلتَه متاعباً ومتاعباً يا أبي..
(3)
حين يتعرض المرء لضغط نفسي عالٍ, تنفجر أعصابه, وتبدأ أشلاء عقله اللاواعي في اختلاق أكاذيب وتصديقها. قابلت العديد من العقلاء الناضجين وقد لاقوا ما لاقوا إلى أن صاروا يختلقون بطولات وهمية لاستجلاب إعجاب الآخر, أو مآسياً وهمية لاستجلاب تعاطفه.. ربما تكون معرفتي المسبقة بهذه الكبوة النفسية –بعد الله- هي التي حمتني من السقوط فيها.. أراجع ذاكرتي أولا بأول, وأنتزع نفسي منها انتزاعا لأحصل على نظرة خارجية لها. فأتمكن –حين أكتبها- من الاحتفاظ بشكلها الحقيقي.
لماذا كتبت مقالا بهذه الخصوصية؟ أكتبه لأصدقائي المقربين ليطمئنوا أنني مازلت أنا, ولمن يهمه أمري ولو من بعيد عسى الكلمات تريحه قليلا كما أراحتني. كتبته للقلة المندسة التي لم أنتمِ لسواها يوما, هؤلاء اللذين ينحتون بأسنانهم الجليد, ويقبضون الجمر ليمنحوا لحياتنا معنى وقيمة.
وكتبته أيضا لقاريء -ولو كان واحدا- يفتش عن الحقيقة كما هي بدون تشنجات التحزبات, وبدون حسابات المكاسب والخسائر, حقيقتنا نحن, البشر, العائلات التي منها داخل السجون من يلاقوا أضعاف ما تلاقيه عائلتي الصغيرة.