محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – في صُحبَةِ الحديد

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 1/26/2017

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

في صُحبَةِ الحديد

(1)
سميكٌ..
كما الحاجزِ الطَبَقيِّ على الفُقراءِ.
ثقيلٌ..
كَهمِّ السجينات والسجناءِ وحْدَهُمُ في المساءِ
وصَلْبٌ..
كظهرِ الرجال يُجالِدُ حمْلَ الزمانْ.
وحينَ يشدُّ الشاويشُ يديهِ بعُنْفٍ
ويغْرسُ في قلْبِهِ سِنَّ مِفْتَاحِ زِنزانَتي
غَالبًا ما يَصِرُّ صريرًا حزينًا..
كشيخٍ مُسِنٍّ..
يُتَمْتِمُ من عَجْزِهِ إذ يُهَانْ.
وأعلَاهُ عَيْنٌ
تُسمَّى مجازًا بنظَّارةِ الليلِ
إذ لا يمرُّ الضياءُ سوى عبرَها
للقراءةِ والحلْمِ
في الظُلماتِ بها وحْدَهَا يُسْتَعانْ.
وفي الفجْرِ..
بعدَ الصلاةِ ينامُ الجميعُ عَدَانا
نواصِلُ سَهْرَتَنا
مُذْ ثلاث سنينَ مَعًا في انْتِظَارِ النَهَارْ..
وأُسْنِدُ رَأسي لهُ
فيُوَشوشُني هامسًا:
“فلتُسامِحْ صديقُكَ
ما كُنْتُ يومًا أريدُ الحياةَ
كبَابٍ لزنزانةٍ
أنا مثلُكَ جئْتُ بدونِ اختيارْ
فمُذْ كُنْتُ في الأرْضِ وطني
بينَ رفاقي المعادِنِ في طَبَقاتِ القَرَارْ
وحُلمي أصيرُ غدًا
بابَ مَدْرَسَةٍ
لأُعَانِقَ في كُلُّ يومٍ كُفوفَ الصِغَارْ
وأمْنَحُهُمْ بهْجةً خارجينَ مَسَاءَا
وفي الصُبْح أمنحُهُمْ داخلينَ انْتِمَاءَا..
ومعْرِفةً.. وأمانْ”
يقولُ ليَ البابُ:
“تَدْري؟
بوقتِ التَرَيُّضِ
تبقى مَفَاصِلُ جسمي مُقيَّدةً للجدارِ..
وأبقى وَحِيدَا..
أراكُمْ
إذا ما انْطَلَقْتُمْ بلحْظَةِ فَرْحٍ بَعيدَا
_كجَدٍّ يُراقِبُ أحْفَادَهُ يلعبونَ مَعًا_
فأصيرُ برغْمِ قُيودي سَعيدَا..
أنا يا صديقيَ
قدْ خَلَقَ اللهُ جسمي جَديدَا
ولكنَّهُمْ شكَّلوني كما شاءَ سجَّانُنَا
صانعُ القِفْلِ والقَتْلِ للكُلِّ..
فهْوَ ولَسْتُ أنا من حَريٌّ بهِ أن يُدَانْ
وإنِّي
إذا كُنْتُ أفْصِلُ بينَ السجينِ وسجَّانِهِ
ذاكَ بالرغْمِ عنِّي كَانْ
لقد عِشْتُ في السجْنِ دَهْرَا
وشاهدْتُ ما يصهرُ القلبَ صَهْرَا
وتَعْجَزُ عن وصفِهِ طَقْطَقاتُ اللسانْ
أتدري؟
كثيرونَ قبْلَكَ مُعْتَقلينَ أَتَوُا..
ثُمَّ راحوا..
فمِنْهُمُ من قد أُصيبَ بدَاءِ البلادةِ
مِنهمُ من تحْتَ مِطْرَقَةً القَهْرِ لانَ.. فَخَانْ..
ومنهُمُ مَنْ صارَ أصْلَبَ منِّي
وعادَ إلى العالم الخارجيِّ
حصانًا جريحًا.. ولكنَّهُ جامحَ العُنْفوانْ
بأيّةِ حال مَضَوْا كُلَّهُمْ
وبقيتُ أنا ها هُنَا ثابِتًا في المَكَانْ..”
يقولُ ليَ البابُ:
“لستَ وحيدًا إذًا
فكلانا هُنا يا صديقيَ مُعْتَقَلانْ”
(2)
باردٌ..
كعيونِ وكيلِ النيابةِ
جَلْفٌ..
كأيدي وأفْئِدَةِ المُخبرينَ.
ولكنْ
برغْمِ البُرودةِ, رغْمِ الجلافَةِ
حينَ تضيقُ على رُسْغِيَ حَلَقَتَاهُ,
دائِمًا ما يكونُ معي إبْرَةٌ
وبها أتمكَّنُ أُطْعِمُ فَاهُ..
رِشوةٌ من صَفيحٍ
بها صِرْتُ أفْتَحُهُ
فلأُضِفْ صِفَةً لكلبشي إذًا
أنَّهُ مُرْتَشٍ كجُيوبِ القُضَاةْ
وبداخل عرْبةِ ترْحِيلنا
صْرتَ أجلسُ حُرًّا..
وأفتَحُهُ..
ثُمَّ أُعلِقُهُ..
ثُمَّ أفْتَحُهُ..
ثُمَّ أُلْقِي بهِ..
ببساطِةِ طِفْلِ يُفكِّكُ لُعْبَتَهُ
ثُمَّ إنْ مَلَّ شيئًا رَمَاهْ.
بَعْدَهَا
عادةً ما أنامُ بأرْضِّيةِ العَرَبَاتِ
_برغْمِ قذارتِهَا.._
لا أُبالي
إذا وَصَلَ الدَرْبُ أمْ لَمْ يصِلْ مُنْتَهَاهْ
عادةً ما أنامُ
ولكنَّني أمْسُ حينَ فَتَحْتُ الكَلَبْشَ
جَلَسْتُ, ولَمْ أَرْمِهِ, لم أَنَمْ
كُنْتُ وحْدي أُقرِّبُهُ لعُيونيَ
كي أتأمَّلَ مِنْهُ المَكانَ
كنَظَّارَةٍ.. قد أرانيَ مَا لَم أكُنْ لِأَرَاهْ.
لم أَنَمْ..
اسْتَعَرْتُ رفيقًا قَلَمْ
ورسمْتُ على باطِنِ يَدي
شيئًا بَدَا كالعَلَمْ
دونَ أسْوَدِ أرْضٍ بهِ
دونَ أبْيَضِ سلْمٍ بهِ
دونَ أحْمَرَ دَمْ..
علمًا باهِتًا دونَ نَسْرٍ
رَسَمْتُ كَلبشًا كبيرًا تَمَدَّدَ حتى اعْتَلَاهُ.
وكتبْتُ بجانِبِهِ ما يلي:
” باردٌ..
كعيونِ وكيلِ النيابةِ
جَلْفٌ..
كأيدي وأفْئِدَةِ المُخبرينَ
كما أنَّهُ مُرتَشٍ كجيوبِ القُضَاةْ
إن هذا الكَلَبْشَ إذًا لا سِواهْ
هُوَ أجْدَرُ رَمْزٍ لوصْفِ الحَيَاةْ
في بلادٍ تُسَلِّمُ أَيْدِيَهَا..
للطُغَاةْ..”
(3)
كُحْليٌّ..
كبقايا كَدَمَاتِ السَحْلِ على الأجْسَادْ
صَدِأٌ..
كالحُزْنِ المَرْكُونِ بأقبيَةِ القَلْبِ
يحِزُّ ولا يَقْطَعُ, مَثْلومَ الذِكْرى
أصْبَحَ حُزْنًا صَدِأً مُعْتَادْ.
هَرِمٌ..
تَتَثَنَّى فيهِ الأسْلاكُ مُجعَّدَةً
وتَبثُّ شَجَنًا حينَ نُلامِسُها
كيَدَيْ جَدٍّ يتحسَّسُها الأحفادْ.
كُنْتُ هُناكْ..
أبْصرُ كُلَّ الأشياءِ تمُرُّ
مُرُورًا ومَرَارًا من بينِ الأَسلَاكْ.
كنتُ هُناكْ..
أسقي رُوحي رائِحَةَ الطُرُقاتِ
وأُسْنِدُ وجهي لحَديدِ الشبّاكْ
كُنتُ هُناكْ..
العَرَبَةُ تَركُضُ بي
والناسُ كنَمْلٍ خَلْفَ الرِزْقِ أراهَا ترْكُضُ
والعالمُ كالمَعْتُوهُ يتيهُ.. يتيهُ.. ويَرْكُضُ
لم يَثْبُتُ إلا الزمنُ
كرُمْحٍ مُنْغَرِسٍ في جُرحي
ظَلَّ ثلاثَ سنينَ بدونِ حِرَاكْ.
كُنْتُ هُناكْ..
العربةُ قَبْرٌ يتحرَّكُ في الشارِعِ
والشِّبَاكُ يُمرِّرُ بعضَ فُتاتِ الضوءِ
وبَعْضَ فُتَاتِ النَسَماتِ إليّْ
أتنفَّسُ..
شُكْرًا يا شُبَاكَ العَرَبَةِ
سوفَ أُخبِّأُ
ما أقْدِرُ من هذي النسماتِ بِرِئَتيّْ
وأخبِّأُ
لظلامِ الغَدِّ بعينيَّ الضّيّْ..
المُستَقْبَلُ
دونَ ملامِحَ.. أدْري
صارَ ملفًا بيدِ الباشا.. أدْري
يتصفَّحُهُ كي يطويَهُ في مكتبِهِ.. أدْري
في وَطني
مازالَ المُسْتَقبَلُ قيْدَ الطَيّْ..
والشارعُ
لن يتوّقفَ لغيابِ فتًى
أو حتَّى ألفِ فَتًى
لن تتفجَّرَ غَضبًا قاماتُ مبانيهِ
ولن تتساقَطَ حُزْنًا أوراقُ الأشجارِ
ولن تدْخلُ عِمْدَانُ النورِ بعصيانٍ مَدَنيّْ..
يا شِبَّاكَ العَرَبَةِ
أدري هذا جِدًّا
لكني أدعوكَ تَجَلَّدْ
لا تَتَنَكَّدْ حينَ تراني بين رفاقي
لا تحزَنْ.. لا تَأْسَ عليهِمْ وعَلَيّْ..
يا شُبَّاك العَرَبَةِ هاكَ يَدَيّْ
فَتَسنَّدْ إن شِئْتَ إليها
ولتَلْمِسْها كي تَتَأكَّدَ
ضغطُ عِنَادِي
وحرارةُ عِشقِي
ومعدلُ نَبْضِ حنيني
كُلٌّ مازالَ طَبيعيًّا.. وفتيًّا.. وقَويّْ.
يا شُبَّاك العَرَبةِ
يا برْزَخَ فَصْلٍ بين حياةٍ ومَمَاتٍ
يا برْزخَ وصْلٍ بين الأملِ وبينَ اليأسِ
تُرَى..
من يمْشي في الشارعْ مُنْحَنِيَ الرأْسِ
ومنْ يقِفُ وراءَكَ مُنْتَصِبَ النفسِ
انْظُرْ أنْتَ وقَرِّرْ..
مَنْ ذا يا شُبَّاكُ المَيّتُ ومَنِ الحَيّْ؟
(4)
ضَيِّقٌ..
مثلَ أدْمِغَةِ الجنِرالاتِ
لا يبصرون الحياةَ
سوى عبْرَ فوَّهةِ البُندقيَّةِ
والنْاسَ عبر الرُتَبْ
ضيِّقٌ مثْلُهَا..
فهوَ لا يَسَعْ الأُغْنياتِ ولا صَرَخَاتِ الغَضَبْ
خانِقٌ..
كابْتسَامةِ طاغيةٍ مُنْتَخَبْ!
خَانِقٌ.. مِثْلَهَا..
يتزاحَمُ فيهِ دُخانُ السجَائِرِ
رائِحَةِ العَرَقِ الآدميِّ
أداءُ المُحامينَ في المسرحيِّةِ
صمْتُ الضحيِّةِ
هَمْهَمةُ الناسِ عَجْزًا
وصوتُ نحيبِ العَدَالةِ إذ تُغْتَصَبْ
وَسِخٌ..
كضميرِ السياسيِّ
حينَ يُدَبِّجُ فوقَ دمَا الشُهداءِ الخُطَبْ
وَسِخٌ.. كسُطُورِ السِياسيِّ
قُضبَانٌهٌ سُيِّجَتْ بالكَذبْ.
كَذِبَ الوكلاءُ.. الشهودُ.. القُضاةُ..
فإنَّ الجريمَة
ليسَتْ كمَا يدَّعونَ هُنَاكَ بعيدًا
بَلِ الجُرْمُ
في قَفَصِ الحُكْمِ حالًا بأيديهِمُ يُرتَكَبْ.
كُنْتُ بينَ رفاقي بدَاخِلِهِ
نَظَراتُ التشَفِّي
سلاحُ الجنودِ
الحديدُ يُحيطُ بِنَا والتُهَمْ.
كانَ قاضي القُضاةِ
بكُرسيِّهِ ثابتًا كالصَنَمْ
لم يَسَلْنِي..
تَصَفَّحَ أوْرَاقَهُ وَحَكَمْ
لم أُعِرْهُ انْتِبَاهًا
فلَحْظَتُهَا كُنْتُ في قَفَصِ الحُكْمِ
وَحْدِي أناجي الحَديدْ:
“فيكَ بأسٌ شديدْ..
فأجبْني إذًا..
كيفَ يا صاحبي خَرَطُوكَ هُنَا
دُونما أنْ تُريدْ؟
كيفَ لمْ تُدْرِكِ الدَرْسَ أنَّهُمُ
سوفَ يسْتَخدمونَكَ حتَّى تموتَ
وتُلْقَى على الأرْضِ مِثْلَ جميعِ العَبيدْ؟
فلماذا انْثنيتَ لَهُمْ؟
ولماذا اقْتَرَبْتَ لَهُمْ؟
كُنْتَ عنْ كُلِّ هذا بَعيدْ..
يا حديدُ
إذا ما أرَدْتَ مُخالَطَةَ الناسِ
فلْتَبْقَ حَيًّا.. نقيًّا.. ولا تتلوَّثْ بِهِمْ
كُنْ دروعًا تصونُ الحياةَ
وتَحْمي ابْنَ آدم مِنْ نَفْسِهِ
كُنْ دروعًا _إذا ما أردْتَ_ لَهُ.. لا قُيودْ.
يا حديدُ
خُلِقْتَ عنيدًا وصلْبًا وحُرّْ..
كيفَ يا صاحِبي تنْحني
كيف ترضى
وتغدو شريكًا بظُلْمِ البَشَرْ؟
كيفَ تَبْلَعُ جمْرَ المآسي ولا تَنْفَجِرْ؟
أنْتَ
كالشعْبِ مُنْتَهَكٌ
لسْتَ تَمْلِكُ شيئًا لِتَخْسَرَهُ
فأجبْني علامَ الحَذَرْ؟
يا حديدُ انْتَفِضْ
لن تعودَ كما قَدْ خُلِقْتَ
عفيًّا.. وحُرًّا.. إذا لم تَثُرْ.
أنْتَ_كالشعْبِ_ يطْهُرُ
من خَبَثِ الخائنينَ وخُبثَهُمُ
حينَمَا فوقَ نيرَانِ ثوْرَتِهِ يَنْصَهِرْ
أنْتَ
كالشعْبِ أقوى
وربِّي وربِّكَ
لو سِرْتُمَا بطريقٍ مَعًا
لانْتَصَرْتَ بِهِ.. وانْتَصَرْ..”