اسم السجين (اسم الشهرة) : محمود ممدوح وهبه عطيه ابو زيد (محمود وهبه)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 8/11/2014
السن وقت الاحتجاز: 21 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بجامعة المنصورة
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة
أتوجه في سكون تلك الليلة الظلماء
الحمد لله وصلاة وسلاماً على مبعوث الرحمة وسيد الخلق وخير من هدى الناس بإذن ربهم إلى صراط الله القويم، وابعث بسلامي -عله يكون سلاماً عذباً- إلى عباد الله المخلَصين المخلِصين الصالحين المصلحين من تابعيه وتابعيهم بإحسان إلى ما بسط الله للخليقة من أعمار إلى يوم الدين.
أتوجه في سكون تلك الليلة الظلماء، والتي أدركتُ باكتمال البدر في السماء، وذهب الخلق للإيواء، فلا صوت يُسمع إلا من بعض البلهاء من أفراد الداخلية وهم والشيطان قد قاربوا حد السواء، إلى الله بقلب أراده صاحبه منيباً فيدعوه: “اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن ساخطاً علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات والأرض وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك” -رواه الطبراني عن عبد الله بن جعفر- اللهم يا ولي نعمتي ويا ملاذي في كربتي فرج عني ما أنا فيه، اللهم فك أسري وأحسن خلاصي، اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال.
هنا وجب علي أن أستميح القارئ عذراً إن وجد في كلامي الإسهاب والإطالة.. لربما لو أدرك نعمة القلم لمن هم في مثل حالتي لعلم أن وراء الكلام كلاماً، ذلك أننا نكتب في الخفاء ونجتهد أن يصيب حظنا في مرات قلائل قلم ضال أو منديل قد أفرد نفسه لخاطري المكلوم وكلماتي الجافة ليحمل عبأ نفسه ونفسي في سلسلة طويلة من التفتيشات حتى يصلك بين يديك، أو تقرأه على مكث في مواقع التواصل الإجتماعي، أو تسمع به فلا تلقي له بالاً وإن كان صاحبه سيلاقي في سبيل خطه وبالاً.
لحظات:
هدوء في المزاج العام يشبه حالة الترقب والترصد لي لربما أغراني وشوّش تفكيري عن تلك العاصفة القادمة أو تلبّد السماء بالغيوم إشرافاً على السيول العاتية.
ملامحي يبدو عليها النشوة والسعادة، قدماي تسيران بثبات نحو شكل للحياة جديد على حافة مضمون تفاصيله لا أدركها إلا أن العناوين التي اختزلت التفاصيل بينها وبيني حتماً صلة، ربما هي إنتاجية عقلي وقناعاتي، أو هي صلة القرابة القلبية التي تتمثل باستقابل سحنة الوجه للحيرة وعدم الاستقرار والتي دفعت اللسان ليدعو الله لينقل صاحبه من لجى الشك إلى يابس اليقين والإيمان، لكنها في عرف السلوك مستجدة غريبة، هأنذا انتهي من شارع الحرية لأبلغ ما يقاطعه ويكأنه وقت مستقطع يراجع المرء نفسه ويعد العدة ليوم الخلاص.
يظهر في المشهد رهط من أفراد الشرطة منهم المخبر ومنهم أصحاب النجوم والنسور المتخفون وراء ملابسهم الملكية “مباحث” وبحوزتهم أعيرة نارية “مسدس” وأوقية ضد الرصاص ظهوراً من العدم، حيث فوجئت بسيارات تُقلُّ هذا الركب الدنس وإذا بتلك العربات تعلن لجمهورها “أنا” عن بعض الحركات البهلوانية والتي لولا تمكّن ما في قدمي لقذفتها به إنهاءاً لذلك المشهد العبثي.. يصوب إليّ العيار.. نفس عميق أدرك به أبعاد ما يحدث لي ثم هدوء تام انصياعاً لرغبة حاسة السمع في أن تنصت لفوهة العيار الناري.. “مكانك.. اسمك ايه.. انزل يابن ***.. معاك حاجة.. فتّشه.. معاك حاجة تانية”. هنا لا يجب أن تنتهي الحفلة دون وضع اللمسات النهائية عليّ من قبل أهالي المكان والذين لهم من الشرف نصيب!!
“أنزل يافندم.. كلبشة خلفي.. تمام يا باشا”، بعض الصبية المتشردون “إخوان إرهابيون.. تسلم الأيادي” صفق الجميع.
سيارتان تنتطران لتنقلاني إلى حيث يقطن مكان التحقيق، يقودها إلى قسم تاني المنصورة ويدور الحوار بينه وبيني “اسمك إيه؟.. محمود.. محمود إيه؟.. محمود ممدوح وهبة.. ساكن فين؟.. الجلاء.. فين في الجلاء؟.. برج الجلاء ناحية شارع البستان.. اممم، أنا كنت ساكن فيه من زمان.. أنا بقالي 12 سنة فيه.. كنت أنت صغير لما أنا كنت موجود.. مشفتكش.. كنت صغير ساعتها.. إلى آخر الحوار العقيم الذي انتهى ب: “مش كنت تيجي في مظاهرات جايلي في قتل”.. قتل؟!!
لا يخلو هذا الحوار من بعض الكلمات التي تدل على ثقل لساني عند الإجابة لتلهف كبرياءه في الإسراع للإيجاب على أسئلة التعارف.
بدأ التحقيق مرات على مدار الأيام الأربعة الأولى وانتهى، بدأ التنكيل في معسكر على مدار ثلاثة أيام تخف وطأته يوماً بعد يوم وانقضى وذهب لحال سبيله، ينتظر من أن يخلى سبيله ليفصح عن بعض ما أصابه من براثن الداخيلة ومجنديها، لكن لا مجال ولا مكان فكفى.
اليوم الرابع، نيابة أمن الدولة العليا (يومين).. أمن الدولة اللزوغلي.. نيابة أمن الدولة (يوم).. سجن استقبال طرة (من نصف ساعة إلى ساعة).. سجن العقرب شديد الحراسة بطرة.
عرفت أن فكرة الحبس غير مطروحة في التشريع الإسلامي الحكيم حتى إن أقصى مدة للتعذير بالحبس في بعض الحالات الاستثنائية هي عشرة أيام -ها أنا أفهم شيئاً واحداً-.
قواعد العقرب قائمة على أن الأصل في الأمور المنع والتحريم، وليس الحل والإباحة، القراءة وكتابة الخطابات، تحريك الجسد بما فيه الكفاية، التعرض للشمس.. ما ملخصه صناعة بشر عديم الإستفادة وبالتالي عديم الإفادة.
لم أتحدث عما اعتراني في فترة الأربعة أيام الأولى لأني عندما وصلت إلى محبسي تعرفت على سجن العازولي بالإسماعيلية، وهو في أصله سجن حربي لتسكين أهالي سيناء، لكن بالإضافة إليهم يذهب أخطر الجهاديين والإخوان، وفيه تسيمهم الشرطة العسكرية أسوء العذاب وأشده، مما يدفع المرء فينا مهما حدث له أو تصور أن يحدث له مما سمع عن العازولي ومما شهد في اللزوغلي إلى أن يقل خيراً بذكر حالتهم وحالة ذويهم أو يصمت في نفسه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن سجنوني فسجني خلوة”.. يسطر ابن تيمية هنا أروع الجمل ايضاحاً لمفهوم السجن حيث يجسد حيرة أعدائه في أمره، ومن أن فكرة السجن ما هي إلا فكرة معنوية ليس كما يظن أعدائه بأنها مسألة مادية في تقييد الحركة، في منع الشمس عنه، في منع الحل وإباحة ما يقيم الصلب.
قد يهب الله عبده من الرضا والقناعة بما هو فيه ما تنقلب الآيات فيصبح السجان خانع والمحبوس مطور لأسلوبه مراجع لأعماله خالٍ مع ربه لتزيد ثورته عليهم في يوم من الأيام ما تذيب تلك الحواجز الحديدية التي تحول بينه وبين تحقيق أحلامه وتجريب ما بت بمحبسه فيه من تطوير للآليات واستبدال للوسائل.. “ولتعلمن نبأه بعد حين”.
انقسم الناس حولي وحول شخصيتي ما بلغني، فمنهم من بلغت عنده درجة أحوجه اللفظ فيها إلى أن يقول “ألا شاهت الوجوه”.. فلا رد إلا: إن شاهت في سبيل ديني فلا ضير، ومنهم من بلغت عنده مبلغاً ألبسني فيه أعمالاً وأوصافاً ليست لي ولا بي بل إنها صدمتني وأدهشتني، فمنهم من يقول: يا أيها البطل!! وأقول: وكل قول مثل هذا قد بَطُلْ لأني وأنا ابن الواحدة والعشرين.. لكن!! لكن خطرت لي قصة بطل: في عام 1431 م ولد ثلاثة أبطال وهم محمد الثاني وخضر حلبي والألو بطلي حسن … نشأوا في مدرسة عثمانية واحدة وتعاهدوا في عمر النضج على أن تصدق فيهم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”.. بعد نشأة تربوية إسلامية حسنة على يد الشيخ/ آق شمس الدين -رحمه الله وأجزل مثوبته- تولى للمرة الثانية محمد الثاني شؤون السلطنة العثمانية وهو ابن السابعة عشرة من عمره فبدأ بإعداد نفسه وسلطنته لخوض غمار الفتوحات الإسلامية وأي فتح!! .. إنه فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية آنذاك،
وفي خمس سنين فقط تأتّى له هذا التجهيز -أي عندما بلغ عمره الثانية والعشرون- فوضع خطة عبقرية كانت عصية لكنها إرادة الله التي تشكل الأبطال وتهيئ العزائم لتحمُّل مخاضات ولادة التجارب الفريدة والتي تغير مجرى التاريخ وقوانين اللعبة، لقد تغلب السلطان محمد الثاني “الفاتح” على الموانع البحرية البيزنطية فأجرى السفن على الحبال وتغلب على أسر المهندس/ النصراني صانع أعظم مدفعية يومئذ بأن حفز رجالاً لتخليصه من السجون المصرية.. عفواً البيزنطية.. فأخرجوه فأصبح بسلطان الله سلطان البلاد وأميرها، فلنعم الأمير ذلك البطل.
إن الشهداء والمعتقلين دوني والأخفياء الأتقياء في أوساطكم لهم الأبطال فابحثوا عنهم وانتسبوا إليهم يرحمكم الله!
فتشبهوا بالرجال إن لم …. تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح.
أنا لا أنسى صديقي الشهيد/ عبد الرحمن محمد السعيد ولست بالذي ينسى عاشق القدس/ محمد أيمن ولست بالذي يتوه عنه في غياهب دنيا السجن والضيق أن له ابنة خالة وراء القضبان هي وأخواتها لا ورب الكعبة لست أنا بصاحب النسيان ولا نديمه فواسلاماه!!
يا من رويت بدمائك أشجار العزة والانتصار.. “إن يسرقوك من تاريخنا لن ينزعوك من صدورنا يا شهيد