هيثم محمدين – يسألني زميل الزنزانة

اسم السجين (اسم الشهرة) : هيثم محمدين

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 2/3/2019

السن وقت الاحتجاز: غير معلوم

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: محامي

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

يسألني زميل الزنزانة

يسألني زميل الزنزانة “إنت بتسمع أم كلثوم؟، يبقى تكتب لي جواب لخطيبتي”.
باغتني بالسؤال، فأرد “أكتبه أنا ليه؟ ما تكتبه إنت؟”، “لأ أصل أنا ما بعرفش أقرا”. شاب لا يجيد القراءة والكتابة من قرية كرداسة جعلني أبتسم وأنا في غاية الإحراج، اكتب ازاي جواب غرامي بالوكالة؟ ورطة! صعبان عليَّ أرد للولد طلبه، وأنا مش لاقي كلام أكتبه.
أيام السجن تمحو ما قبلها من أيام وذكريات. في بداية الأمر اعتقدت أنها حالة خاصة، ثم بالحديث مع زملاء السجن اكتشفت أنهم يشكون حدوث نفس الشيء معهم، نسيان الأشخاص والأحداث، هنا ذاكرة تمحى!
بحثت عن سبب هذه حالة النسيان هذه المنتشرة بين المعتقلين، فكرت أنه قد يكون توقف الزمن، أو بالأحرى تكراره بنفس الرتابة، فالعين لا ترى إلا صورة واحدة متكررة كأنها رسوم متحركة، الرمادي الكئيب لون وحيد للجدران، الأبيض زي موحد لجميع الجيران المحبوسين، نفس الوجوه الباهتة، رتابة الأيام وتكرار أحداثها، ضيق المكان وانعزاله عما يدور خارجه، انقطاع الحكايات بعد استهلاكها جميعا، لا شيء جديد، لا شيء مختلف، ربما هذا هو السبب، فالنسيان هو تشتت الذاكرة.
أستمع إلى أم كلثوم منذ أن كنت تلميذًا في الدراسة الثانوية، كنت أراجع دروسي وصوتها يأتي ونيسًا. في سهراتي مع الأصدقاء كنت أفضل المقاهي والأماكن التي “تشغّل” أغانيها، تحلو السهرة معها.
ولأنني أحب سماع أغاني أم كلثوم، كما أنني أريد أن أتذكر تلك الليالي التي سهرتها رفقة أصدقائي، كان لابد أن أحصل على راديو وسماعة “هاند فري”، تلك أولى العقبات. تبرع لي “زميل حبسة” بالراديو، راديو ردئ صنع في الصين، حيث تشترط إدارة السجن أن يكون راديو موجة واحدة لتسمح بإدخاله.
التقاط الإشارة وضبط مؤشر الموجة عملية تحتاج إلى مجهود كبير، ربط سلك معدني في إريال الراديو، ثم التحرك من مكان لآخر، فتثبيت يدك التي تحمل الراديو، كلها أمور لازمة للإمساك بصوت أم كلثوم.
أغمض عينيّ وأثبت يدي ولا أسمح لأحد بالتحدث معي أثناء الوصلة التي تبثها الإذاعة عند الساعة الحادية عشرة مساءً. يسألني أحد الزملاء “مغمض عينك ليه؟!”، “عشان أشوف لجوه مش لبرة”، أهرب من الصور المتحركة التي تعودت عليها، أتذكر ليالي سهرتها، أرى وجوه أصدقائي أكثر وضوحًا، ملامحهم الآن ليست ضبابية، كأن ضبط موجة الراديو ضبط ذاكرتي معها!
أعود إلى زميل زنزانتي الذي يريدني أن أكتب باسمه رسالةً لخطيبته. خطر ببالي أني سأجد الحل عند أم كلثوم، كتبت خلفها “الحب كله حبيته فيك.. وزماني كله أنا عشته ليك”، وتحتها إمضاء باسم هذا الشاب ورسمة قلب. يطلب أن أقرأ له، فأقرأ، فيقول “حلو، لما تيجي الأغنية دي تاني قولي عشان آجي أسمع معاك وأعيش معاها”.
لأم كلثوم حكايات كثيرة بين جدران السجن، بين رفض الإسلاميين الأغاني مطلقًا في عنبرهم، وآخرين انضموا إليَّ في الاستماع إليها حتى أصبحت هناك معارك على الراديو في ساعات حفل أم كلثوم.
رغم أنني استمع إلى أم كلثوم منذ زمن، إلا أنني لأول مرة أنصت إلى مقدّم الحفل، الإجراءات التي اتخذها لضبط الإشارة تجعلني أبدأ بالاستماع مبكرًا، المذيع يعلم عن أن حفل الليلة من دار سينما قصر النيل بالقاهرة، والليلة الماضية كان من مسرح الأزبكية، وحفل الغد سيكون من قاعة المؤتمرات الكبرى بجامعة القاهرة.
المذيع يذكر اسم الأغنية الجديدة التي تأتي ضمن ثلاث أغنيات كانت أم كلثوم تشدو بها في أغلب حفلاتها عدا السنوات الأخيرة، واحدة من الثلاثة تغنيها لأول مرة، يلقي المذيع كلمات الأغنية ويعلن عن المؤلف و الملحن. الاستماع اليومي إلى أم كلثوم تحول إلى عمل مقدس أحافظ عليه بشكل دائم، أقطع أي عمل أو حديث وأتفرغ لضبط الإشارة والاستماع والاستمتاع مع أم كلثوم.
البعض في الزنزانة أحب أم كلثوم بسببي، وآخرون كرهوا سيرتها بسببي أيضًا، ولكن في الأخير تبقى لحظات الصفاء التي كنت أدندن فيها مع أحد الأصدقاء في لحظات الصفا، كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله!.