طالبة مصرية في منتصف العشرينات بدأت دراسة القانون لكن قوبلت بالسجن بدلا من التعليم إثر القبض عليها على خلفية تحرك احتجاجي بالجامعة. قررت الكتابة المجهلة لحمايتها.
ها أنا الآن حرّة، في خلوّ من كلبشات السجن وقمع السجانات و النبطشيات.
بعد سنوات من القهر، صار مفهوم الحرية في أقصاه بالنسبة لي يقتصر على الخروج من زنزانات السجن، أكون حرّة عند فتح الباب، حين أستطيع أن أغادر غرفتي، أن أنزل إلى الشارع، أرفع رأسي فأرى السماء دون حواجز حديدية، دون توقيت يحدده مزاج موظفي السجن أو أوامر السلطة السياسية.
أروي اليوم تجربتي داخل غياهب سجون النساء المصرية حتى أتمكن من توثيق ما يحدث يوميا للنساء والفتيات المصريات وراء الجدران والقضبان حيث لا أحد يرى الظلم والتعذيب…
ها أنذا أعود من السجن وقد ترسخت في ذهني قناعة واحدة، مفادها أن ذلك المكان لا يشبهني ! فقد صرت داخله كطائر مبتور الجناحين يقبع في قفص حديدي في وضع مفروض عليه.
كنت أتسائل دائما،
متى ينتهى كلّ هذا؟
كيف سأخرج من هنا؟
هل ستعوضني الحياة عن هذا القيد والذّل؟
هل سيلازمني الصّمت كي أنجُ بنفسي أم سأظلّ صاحبة صوت عال لا أخشى شيئاً؟
تعود بي الذكرى دائما إلى بداية تلك التجربة المؤلمة، كنت قد بلغت الثامنة عشر حديثا وانطلقت حينها رحلتي كطالبة داخل أسوار الجامعة. كنت منتشية بجملة من المبادئ مستعدة للدفاع ما حييت ! مازلت أتعجب كيف يمكن لفكرة رفض الظلم والحماسة للحق أن تؤدي بحاملها إلى مكان يصنف داخله كشخص خطير على المجتمع يجب حبسه.
إنطلقت قصتي كسجينة سياسية فعليا عند اقتيادي من الجامعة إلى قسم الشرطة، منذ دخولي تمت معاملتي كأخطر الأشخاص على البشرية. عندها غابت كل القوانين والحقوق ولم يحضر سوى السباب والضرب والتعذيب ثم رميت في زنزانة ضيقة لا أعرف ما الذي يحدث خارجها، كنت أعتقد أنّي سأصبح مجهولة المصير حتّى عرضت في اليوم التّالي على النّيابة العامّة.
وجهت لي مجموعة من التهم لم أرتكب منها شيئا لكنها كانت هدية الشُّرطة لكل من دخل القسم من “بتوع السياسة”، لم يكتفي الإدعاء بتهم أعمال عنف وشغب وتخريب واعتداءات بل أضيف إلى وصفة “صنع المعاناة” الكثير من المحاضر الزائفة المقيّدة ضدّي من أشخاص لا أعرفهم وأجزم أنّهم لم يسمعوا عني قطّ، لكنّهم وقّعوا عليها زيادة لسوء موقفي القانونيّ ليس إلّا.
من أجل الكلمة تمت محاكمتي بمشروع قانون التظاهر الذي لم يدخل حيز التنفيذ بعد، عندها ترسخ في ذهني أن واقعي كمواطنة في بلاد موبوءة بالإستبداد لا حق لي فيها سوى ما يريده السلطان.
تمّ ترحيلنا لسجن القناطر لنسكن الإيراد لم يكن التّسكين أكثر بشاعة من التّفتيش وانتهاك حرمة أجسادنا السّابق له بمجرّد دخولنا للسّجن، قضينا شهوراً في الإيراد ممنوعات من كافّة حقوقنا، متكدسات في مساحة غير مخصصة لإستقبال هذا الكم من السجينات، زد على ذلك إرساء واقع العبودية بإلزامنا بخدمة النبطشيات.
لاحقا تم نقلنا لعنبر مخصّص لتسكين السّياسيّات، هناك فقط كنّا نحصل على بعض حقوقنا وقسط من الحريّة في التّعامل والحديث، لكنه لم يدم كثيراً حتى اشتّد الوضع سوءًا عند إضرابنا عن الطعام بسبب المعاملة السيئة التي نتعرض لها يوميا من ضباط السجن وباقي السجينات، تعرّضنا للتعذيب الممنهج من قبل إدارة السّجن وقوّات الأمن والسّجينات الأخريات ليومين متواصلين وتم ترحيل عدد من السجينات إلى سجون أخرى وتشريد الباقيات منّا على حمّامات عنابر السّجن الأخرى.
حكمت بالسّجن مع الشّغل وغرامة ماليّة، من المفارقات العجيبة أنّ الحكم الصّادر ضدّي كان باطلاً لم تحترم فيه المحكمة أي من شرط من شروط التقاضي أو سلامة الإجراءات.
دفعنا ببطلان الحكم في كلّ درجة التقاضي التي مررنا بها لكن لا حياة لمن تنادي، لم يكن يطبّق من القوانين -كالعادة- سوى ما يخدم فكرة استمرار الحبس، إثر هذا الحكم قضيت ثلاث سنوات في السّجن متنقلة بين العديد من عنابر الجنائيات، حتّى قضت محكمة النّقض ببرائتي.
خرجت إلى العالم بقناعة مفادها أن السجن ليس الجدران والحديد الملتصق بها، فهو ظروف يصنعها الجلاد حتى يجعل الواقع أكثر قساوة من “الحبس” فكلنا محبوسون خارجا نعيش حياتنا حسب ماتخططه السلطة لنا.
تصنع هذه التجارب خوف الإنسان ورعبه، وتجعل كلماته عما تعرض له حافزا لصمته إلى الأبد لأن حديثه عنها يشكل عقاب لذاكرته وترهيبا للآخرين. وهذا بالضبط مايريده الجلاد وما يجعل الإنسان سجيناً دائماً…
نوثق كي لا ننسى!