محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – المقال الخامس عشر

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 6/11/2015

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

المقال الخامس عشر

[المقال الخامس عشر]
“أعاااا”
(1)
“عرام عليكو, أنا چيفارا كازترو.. أعاااا, عقوق الإنزان يا ظَلَمَةْ.. عقوق الإنزان.” تخللت كلماتِه المشوهة طَرقاتٌ واهنة على جدار عربة الترحيلات. عياناه غائرتان. وجنتها بارزتان. فمه له سواد مطفأة سجائر بالية. لا يغطي عظام صدره البارزة سوى ملابس داخلية رثة. أما حنجرته, فهي لا تختلف كثيرًا عن وجهه, بها من نَدَبَات التشرُّد ما بها, تصدر صوتًا متحشرجًا أجشُّ, وكأنما يأتيك من جرامافونٍ تالف.
الشاويش الذي أدخلنا العربة تعامل مع صراخ چيفارا وكأنه نباح كلب في العراء. أغلق الباب, فتوجَّه چيفارا لنا بدلا “إيه يا شُيوخَهْ؟” وبدأ يعبث بأمتعتنا. خُدِعَ بمنظر اللحي المُطلقة وغير المشذبة لثوانٍ, وصُدِمَ حين تأكَّد أن ليس جميع الموجودين “شيوخه” كما تخيَّل, إذ يستحيل أن يرد عليه شيخ ببذاءة متناهية كما تطوّع بعضنا وفعل. فشل في سرقتنا. فشل في استعطاف الشاويش بعد استفزازه وسبِّه. هدأ قليلًا.. وعاد.
“Je parle franzais أنا خريج ألْزُنْ والله, بزّ بَلَد بنتِ وزْخَة, معاكو بُرْشام يا شيوخه, أي بُرشام للصداع وحاجة تتاكل ربنا يفك كربكم”. أَكَلَ, ولم يُعطه أحدٌ أي مسكن, شفتاه المتلَجلجتان وحدقتاه التائهتان كانتا دليلًا على تعاطيه مقدار ليس بالقليل من المخدر, وجميعنا يعلم أن السجينات والسجناء جنائيًا يطحنون حبّات المسكن والمضادات الحيوية ويستنشقونها مخلوطةً بالحبات المخدرة داخل السجون. كنت أتأمله حين أتت صلاة الظهر, رفع أحدنا الأذان, فانخرط چيفارا في نحيبٍ هيستيريٍ! نسيتُ أن أسجّل أني لمحتُ صليبًا موشومًا على رسغه أثناء تناوله الطعام!!
انتهى نحيبه بعد أن واسيناه, نظر لأحدنا مُرتعدًا, ثم انكمش, ثم عادت ابتسامة غريبة لوجهه, يبدو أن المُخدِّرَ شعشع برأسِهِ لحظتها: “إنت مش فاكرني يا أشرف بيه؟ أنا سامية دلع يا أشرف بيه..” كان يحاول ترقيق صوته الوحشي بتغنُّجٍ أنثوي مثيرٍ للغثيان.
هل كان ذلك تأثير المُخدِّر وحدَه؟ أم أنه مريض نفسيًا؟ سامية دلع؟ هل أجبره أحدٌ على التسمّي بذا الاسم يومًا؟ عُذِّبَ مثلًا؟ فعلوا ذلكَ معنا في السلخانات, يُجبرك الجلاد على التعامل معه باسم فتاةٍ أو رقمٍ لتكسر الإهانة ما تبقى فيكَ من مقاومةٍ. السجينات والسجناء جنائيًا يتعرضون لتعذيب قاسٍ وأحيانًا أشدّ منا. رأيتُ حالات كثيرة جدًا.
لا أدري حقيقة چيفارا/سامية. ولا أدري ما الجرم الذي ارتكبه, أيًا كان, فالدولة قد ألقت به هاهنا بلا رعايةٍ طبيّة ولا حتى دينيةٍ. أتاحت له صنوفًا وصنوفا من المخدرات, وحرمته من وجبةِ طعامٍ آدمية.
(2)
صبيةٌ يسميّهم القانون “أحداث”, لأنهم لم يبلغوا السن الرسمي بعد, فلا يودعهم مولانا القانون داخل السجون حيث الحياة الخشنة, وإنما يتركهم ليعيشوا داخل الأقسام ومراكز الشرطة.. حيث لا حياة أصلًا.
تصادف عرض قضيتهم –تظاهر, انتماء, قطع طريق- وقضيتي في جلسةٍ واحدةٍ. طالت المرافعات. أثنى أحدهم ركبتيه حتى لامست صدره, طوّقهما بذراعيه, وألقى برأسه فوقهما. بشكلٍ متعامدٍ على الأول, دس الثاني ساقيه أسفل ركبتي الأول وانحنى بجذعِهِ فوقهما. أما الثالث فلم أدْرِ كيفَ حَشَرَ جسدَه في كومة اللحم والعظم المتشابكة, ولم أدْرِ كيف رغم صراخ المحامين جوارنا, استطاع الثلاثة أن يناموا.
مصطفى هو من نبّهني لوضعهم الغريب وسأل لِمَ انكمشوا هكذا رغم توافر مساحةٍ في القفص تكفيهم ليناموا متمددين, وتساءل كم قضى هؤلاء داخل الأقسام ليعتادوا –وهم في سن الانطلاق- على الانكماش هكذا. كلانا كان يعرف الكثير عن طبيعة الأقسام من حكايات الرفاق, حيث لا يسمح العدد المتكدّس سوى بالوقوف أغلب الوقت مع تبادل نوبات النوم في وضع القرفصاء.
كنت أحوّل عيني تبادلا بينهم وبين وجه مصطفى الغاضب يتأملهم. لم أعد أسمع أي حرفٍ من مرافعات المحامين في مسرحية المحاكمة, صوتٌ واحدٌ كان يدوّي داخلي “أعااا.. عقوق الإنزان يا ظلمة, عقوق الإنزان”. لم أصرُخ كصاحبنا چيفارا, ولم أمتلك من الطاقة النفسية ما يكفي لأقترب من الصبية بعد أن استيقظوا لأهوّن عليهم. صمتُ. تقرفصت أرضًا. أنا بدوري.. انكمشت.
(3)
نصف الحقيقة كذب. الانتقاد المشذب تعريص. السجون المصرية لا تحتوي على “بعض” المخالفات, والضباط الشرفاء لا يرتكبون “بعض” التجاوزات. الأصل في السلخانات والسجون هو القهر والإذلال والإنحطاط لأسفل دركٍ بهيميٍ.
بوسعي أن أكتب الكثير عمّن قابلتهم عابرًا أو شاركتهم الحياة داخل زنزانةٍ واحدةٍ, أكتب عن التعرية, التجويع, الحرمان من النوم, إحراق اللحي, التعليق من الأذرع, انتهاك المؤخرات بالأصابع والعصيِّ, وصعق الخصيتين داخل سلخانات التعذيب. وكذلك عن مساحات الزنازن الأضيق من القبور, منع الزيارات, سرقة الأغراض بحجة التفتيش, الضرب بحجة التأديب, الطعام القذر, المياه النتنة, والحرمان من الشمس.
من الزاوية الأخرى بوسعي أن أكتب عن المقاومة, الثبات, التراحم, الضحكات الرائقة, النفوس المطمئنة, الأحلام السماوية, اليقين الإلهي, الاستعصام بالله, والاستمساك بالمباديء للجيل الذي يُربى داخل السجون.
قد يكون السجن بردًا وسلامًا, به من الحرارة فقط ما يكفي ليذيب الجمود والتحزّب الأعمى, ويُعلي القيم الإنسانية قبل أي شيءٍ, لتصبح الزنزانة رحمًا ولودًا لبشرٍ أكثر رُقيًا. وقد يكون السجن نارًا تصهر ما تبقى من آدمية السجينات والسجناء, ليخرج لنا طُغاةً ومسوخًا جُدد.
بوضوحٍ تام, ماذا تنتظر من صبيٍ عرّوه ووضعوا عصىً في مؤخرته ليعترف بجُرمٍ لم يرتكبه أو حتى ارتكبه؟ أن يدرس الفنون التطبيقية ليعمل بعد خروجه مُهندسًا للديكور مثلًا؟! سيخرُج ناقمًا على الدولة بكل كياناتها, كافرًا بأي أحلامٍ للتغيير بلا عنف, كارهًا للمجتمع بكل طوائفه, من شارك ومن بارك ومن صمت عن انتهاكِهِ يومًا.
بين خطاب المظلومية الذي يسعى لتعاطف المتلقي لا أكثر, وخطاب العنترية الذي يسعى لإعجاب المتلقي لا أكثر, هناك خطاب الصدق الذي لا يسعى سوى للحقيقة كما هي.. عارية. مستمسكًا بهذا الخطاب, أكتب. أعرف أن الحقيقة كلّما خرجت للناس عاريةً قابلوها بالهجر حينًا وبالرجمِ حينًا. أعرف أن الأغلب سينظرون بلا مبالاةٍ لها, كلا مُبالاة شاويش عربة الترحيلات. أعرف أن آخرين سينظرون لها بتعجُّبٍ دون محاولة للمساعدة, كتعجّب باقي السجينات والسجناء حينما رأوا چيفارا يجأر بالحقيقة صارخًا “أعااا..”.
أعرف.. ولا أملك سوى أن أكتُب.
محمد فوزي