محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – [المقال الثامن عشر] المقال الثالث من متتالية “اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ..”

اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 8/8/2015

السن وقت الاحتجاز: 25 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة

مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم

[المقال الثامن عشر] المقال الثالث من متتالية “اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ..”

[المقال الثامن عشر] المقال الثالث من متتالية “اكتُبْ, تَكُنْ.. واقرأْ, تَجِدْ..” *
3- هروبي إلى الحرية
رسمتُ لهُ الخريطة, شرحت له المهمة المطلوب تنفيذها بدقة, وبرشوة ضئيلةٍ _علبة سجائر من نوعٍ غالٍ_ قَبَلَ السجينُ الجنائيُّ مساعدتي في خطة هروبي. كنتُ عائدًا إلى زنزانتي من مكتبة السجن, المكتبة التي لا يدخلها سجينٌ إلا لقضاء امتحانٍ دراسيٍ. المفارقةُ أنني لأول مرة منذُ دخلتُ الكلية صرتُ أحبُ يومَ الإمتحان, لأنه الآن يمنحني الفرصة الوحيدة لأزور مكتبةً, لأتصفح الكتبَ, لألمس الحبرَ, وأشْتَمَّ رائحة الأوراق. رجعتُ وقد حفظتُ شكل المكتبة الصغيرة وتقسيم الأرفف جيدًا. مررت على السجين الجنائي المسئول عن نقل الكتب المُستعارة من وإلى العنبر. كتب سخيفة بعينها فقط هي ما كان يُسمَحُ لنا باستعارتها. رسمتُ له خريطةً مبسطةً مُحَدِّدَا عليها موقع وبيانات الكتاب الذي أريده.
[ستستعيرُ لي هذا الكتاب, لماذا تسميها سرقة يا زميلي؟ أعرفُ أنه ممنوع, ولذا ستعيدُه أنتَ بنفسك دون أن يدري أحدٌ, بعد يومين لا أكثر, أنتهي فيها من قراءتهِ, وتنتهي أنت من علبة السجائر هذي.. اتفقنا؟] كنتُ قد قررتُ, في الأسبوع الثالث لدخولي السجن, بعد أن استعدت عافيتي الجسدية نسبيًا, أن أهربَ من دفن الروح حيةً على سلالمِ أسطرِ الكتب, وأن أجدَ هذهِ السلالم ولو حفرًا في الخرسانةِ بالأظافر..
قبلَ هذه الاستعارة الملتوية بحوالي أسبوعٍ كنتُ قد جُرِّدتُ من كل كتبي على باب سجن المنصورة العمومي. وأُودعتُ زنزانةً ضيقةً مكتظةً بطلابٍ واردين لأداء الامتحانات. سبعةِ طلابٍ أزاهرة في عامهم الأول بالإضافة إلى نوباتشي جنائي. ساعدوني بالسماح لي أن أتنقل بين كتبهم الدراسية قراءةً متى شئتُ. ودودين خدومين كانوا. فكرتُ “أليس من الأنانية أن أهربَ متكوِّرًا على كتابٍ في ركنِ الزنزانة وحدي, واتركهم هكذا؟” أعينهم الطيبة هذه تشي بطيشٍ مكبوتٍ خلفَ هدوئِها.. حسنًا, حان وقتُ العمل.
[مالكم صامتين؟ ألا تحفظون أي أغانٍ؟ هيا! لا تتحججوا, صوتي أسوأُ من أسوأ صوتٍ بينكم, لكنني أحب الغناء, ساعدوني.. إن لم نستطع أن ننشدْ, فلننشز معًا, لا يُهم.. إمم مللتُم؟ مساحة الزنزانة لا تسمح بأي لعبٍ حركي, إليَّ بورقٍ مُقوَّى من أي علبة لنصنع كوتشينا حالًا.. ماذا؟ ممنوع؟ النوباتشي الجنائي؟! حسنًا دعوه لي] رفضَ في البدء, وهدد بإخبار المباحث لتعاقبنا على جريمتنا الشنعاء! لكنه لانَ حينَ فاوضتُهُ أن أعلِّمَهُ ألعابَ خفةِ يد بكوتشينتنا المُصنَّعة محليًا. رأيتُ بعينيه العجوزتين شرر انطلاقٍ لا يقلُ عن الآخرين. وافق, وشاركنا اللعبَ حتى موعد النوم. ناموا.. وواصلتُ القراءةَ, هكذا هرّبتُ رفاقي على بساطٍ من أوراقِ اللعب, وهَرَبْتُ على بساطٍ من أوراق الكُتُب.
“كان هذه هو الهروب الوحيد المتاح من سجن فوتشا, بجدرانه العالية وقضبانه الحديدية, هروب الفكر والروح, لو كان بإمكاني لاخترت الهروب الحقيقي, هروبَ الجسد.. في هذا الكتاب أفكارٌ عن الحرية, عن الحياة والمصير والناس, عن الكتب التي قرأت, عن الأحداث التي لم يُتَح لي المشاركة بها وعن الرسائل التي لم أرسلها لأبنائي..” **
هكذا قدَّم على عزت بيجوفيتش لكتابه “هروبي إلى الحرية”. وقعَ بينَ يدي مصادفةً. هرَّبَهُ صاحبه, ثم تركه لي وذهب لسجنٍ آخر لقضاءِ امتحاناتِهِ. الكتابُ مسوداتٌ لخواطر مختلفة خلال سنوات سجنِهِ الخمسة. استطاعَ بيجوفيتش عبر الكتب التي قرأها, الأفلام التي شاهدها داخل سينما السجن, ورسائل أبنائه الدافئة, أن يحافظ على لباقته الذهنية. سينما السجن؟ نعمْ, هناك على كوكب الأرض سجونٌ توفر للسجين كل سبل الحياة الأساسية والكمالية, فالسجن عقاب بحرمان الفرد من حريته في التواصل مع مجتمعه حتى يحترم هذه الحرية ويحسن استخدامها حين يخرج. لكننا في مصر, حيث السجن حرمانٌ من الحياة نفسها, ليصبح السجينُ عدوًا لها, هذا إن خرج أصلًا.. أمُّ الدنيا.
كان بيجوفيتش جَدَّا وقتها, يتابع أخبار أبنائه وأحفاده مستندًا لخزين ذكرياتٍ ضخم, ماذا لو كان عشرينيًا؟ هل يستطيع فتىً في بدء عمره أن يحافظ على روحه وفكره عبر القراءة فقط؟ السؤالُ الأول الذي يُتعبني والثاني الذي يُرعبني “هل هذا ما أريده حقًا؟”. أخشى ما أخشاه أن أكوِّنَ تصوارت ذهنية بالقراءة عن الحياة دون أن أخوضها بحواسي الخمس, دون أن أراها سوى من شباكِ عربة الترحيلات الضيق, دون أن أتفاعل مع الحياة بلحمي وأعصابي لتُغيرني إلى الأرقى وأغيرها إلى الأجمل كما كنت _ومازلت أحاول أن.._ أحلم.
“الحرمان الحسيِّ يؤدي إلى هلاوس بصرية أو سمعية أو لمسية حسْب نوع ومدة وشدة الحرمان” لا أذكر من كاتبُ هذه الجملة. أذكر فقط أنني قرأتها في كتاب طبٍ نفسي منهجي داخل السجن, ووقتها توقفتُ وعدتُ لتجربتي الأولى في الحرمان الحسي. حينَ غُمِمْتُ لأسبوع متواصل بدأ عقلي لا إراديًا في تكوين هلاوس وخيالات بصرية تلون الظلام الذي أسبح فيه. كنت أدرك بين الحين والآخر أني أهلوسُ, وأحاول أن أحافظ على الجدار الفاصل بين الحقيقة والخيال ما استطعت, لكنني لم أكن أطرد خيالاتي, فقط كنت أسعى لتوجيهها لتخفف عني وطأة الظلام.
الحرمانُ الحسي يُداوَى, لكن الحرمان المعرفيَّ مزمن وخبيث. فبحرمان المرء من المعرفة تتشكل في عقله هلاوس فكرية وعقائدية قد تودي بحياته وحياة مجتمعه كاملًا. لم ينشأ الطغيان _والإرهاب أيضًا.. _ إلا بعد أن تمكن الحرمان المعرفي/الجهل من أصحابه. لذا, أقرأ كل ما يقع تحت يديَّ, وكل ما تنتزعانه من أنياب المفتشين, أقرأ بشوقِ من يعرف أنه قد يفقد الكتاب غدًا. لم تعد القراءةُ رفاهيةً بالنسبة لي. هي الآن درعي الأوحد وسطَ معركةٍ مجنونةٍ لمجتمعٍ يتأرجح بين الاستبداد والتطرف. وأقرأ لأنَّ القراءة صارت بشكلٍ ما الطريق المتاحَ للوصول إليها.. هي.
[ اقرأ, تجِدْ] وأنا لا أقرأ إلا وأجدها. هي التي شكَّلت الكتب في بداية علاقتنا اهتمامًا مشتركًا, ثم جسرًا للتواصل ثم بابًا لاكتشاف الآخر, ثم الآن لبنةً لبناء مستقبلنا معًا. هي التي صاغت نفسها في ذهني ككيانٍ يربطُ بين أفعال القراءة, الرقيِّ, والحرية, تراءت أمام عيني امرأةً تُجسِّدُ قيمَ الحُب, الجمال, والعطاء. هي بخطاباتها/ضمادات روحي, بصوتها البَلْسَميِّ النبر, بحضورها المُعجز, وبحضنها الذي أقسمتُ بمن أنشأها من ضلعي لأسْكُنَنَّهُ زوجًا أبديًا, أو.. أهلكَ دونَه.
[واكتُبْ, تكُنْ] أكونُ, وتكونُ هي دائمًا, أمامي حلمًا جميلًا بعيدًا يُناديني أن “تعالَ”, خلفي نبعًا نقيًا يطمئنني أن “اغتسل فيَّ, تستعِدْ روحَكَ من زحامهم”. تكون هي عن يميني فراشةً تُرَبِّتُ على يدي المرتعشةِ بلمسةٍ “اكتُبْ..” وعن يساري امرأةً ناضجةً تعرفُ كيفَ تُلمْلِمُ قلبًا مُهشَّمًا بهمسةٍ “أُحِبُّكَ..”. أكونُ وتكونُ هي معي, حولي, وفِيَّ..
* * *
قبل أن أكتبَ هذه النصوص الثلاث, كنتُ قد أُنهِكتُ تمامًا, وأرسلتِ أنتِ لي “أبقِ رأسكَ عاليًا فوق مستوى المياه قدر المستطاع حتى أستطيع انتشالك قريبًا” . رَدَّدتُ جملتَكِ نشيدًا مُقَّدسًا, وعلَّقتُها كتميمةٍ على جدار القلب. لكنَّكِ تعرفين, في وطننا المصون تفيضُ المياهُ _والدماءُ أيضًا.._ منذُ زمنٍ بشكلٍ طوفاني. لا صبر نوحَ لديَّ ولا فُلكَهُ, لا رابطة جأشِ موسى لديَّ ولا عصاهُ. أنا فقط أحاول. أقرأ. أكتبُ. وأحِبُّكِ منْ قبلُ ومن بعد. هذا هو هروبي إلى الحرية. هذه هي طريقتي الوحيدة لأبقىَ رأسي عاليًا. أحاولُ..
____________________________________________
* “أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ :
اكتُبْ تَكُنْ !
واقرأْ تَجِدْ !
وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ ، يَتَّحِدْ
ضدَّاكَ في المعنى …
وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ”
-من جدارية محمود درويش
________________________________
** الاقتباس من كتاب “هروبي إلى الحرية” , علي عزت بيجوفيتش, بترجمة محمد عبد الرؤف عن دار مدارات للأبحاث والنشر . الاقتباس معنى وليس نصًا حيث رُحِّلْتُ من سجن المنصورة قبل أن أتم النص, ففقدت الكتاب, واعتمدت على ذاكرتي السمكية في تذكر المقطع المُقتبس.
محمد فوزي