عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – فى خلفية سريرى الصغير بالطابق الثالث من الأَسِرَّة، نافذة صغيرة

اسم السجين (اسم الشهرة) : عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 9/7/2017

السن وقت الاحتجاز: 18 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون/تأهيل وادي النطرون

فى خلفية سريرى الصغير بالطابق الثالث من الأَسِرَّة، نافذة صغيرة

فى خلفية سريرى الصغير بالطابق الثالث من الأَسِرَّة، نافذة صغيرة.
نافذتى، رغم صغرها، هى بمثابة المعجزة. فمن نافذتى أرى السماء.
أسند رأسى على شبكها الحديدى القاسى، محتضناً وسادةً صغيرةً كوَّنتُها من أغطيتى. شبكها الحديدى يحمل شيئاً من البرودة فى قلب الحر القاتل. أضغط جبهتى بقوة. أشعر بالشبك ينغرس فى جلدى. سيترك علامة. أفكر بكسل. لا أهتم.
خلف شبك نافذتى الحديدى، جدار آخر من القضبان على بعد نصف قدم، و بعدها بقليل جدار آخر من القضبان. ثم يرتفع بعد ذلك سور من الأسلاك الشائكة مميتة المنظر، إذا مددت بصرك خلفه بحوالى مائة متر، ترى سور السجن المهيب منتصباً.
شبك حديدى، فقضبان، فقضبان، يليها سلك شائك، ثم سور.
و تطفو فى جلالٍ خلف ذلك كله، كأنها خلفية أو قماش تلك اللوحة البديعة من الخطوط و الأعمدة و الدوائر المعدنية المتداخلة، السماء.
مظلمة، كما أحببتها دوماً. أراقبها، كما راقبتها عشرات المرات لليالٍ طويلة، مستلقياً على ظهرى فى ملعب كرة السلة. تشعرنى للحظات بهدوءٍ غريب وارتباطٍ بذلك الشخص الذى كُنتُه منذ أربع سنين، مليئاً بالأحلام و البراءة الساذجة. لم ينكشف بعد على قبح العالم و أساه. تذكرنى أنى كنت هناك يوماً ما. حدث ذلك يوماً ما. ففى النهاية، هى الثابت الوحيد الذى ظل كما هو فى هذا المشهد الذى تغير فيه كل شئ، و كل شخص.
يعود الضجيج إلى رأسى، يطنّ ملاشياً الهدوء اللحظى. أحييه كصديق قديم، أحتضنه، أتركه يتربع فى جمجمتى، و يشكو.
أسمع فى صبر. ماذا بعد؟ لستَ فى برنامج العفو الرئاسى. لن تخرج. سيخرجون كلهم، و ستبقى أنت.
لماذا؟ لا أدرى. لا أسباب. لم تصبك القرعة ربما.
نجحت هذا العام بتقدير جيد؟ شئ جميل. لكن هل ستعين معيداً بتقدير جيد؟ هل ستكون من أوائل الدفعة بتقدير جيد؟ هل يمنحون منحاً للدراسات العليا بالخارج لتقدير جيد؟ هل ستحافظ على تقدير جيد من الأساس؟ قتلتَ نفسك هذا العام و لهثت الثرى لتصل لهذا التقدير المتواضع، فهل تستطيع أن تكمل لعامٍ رابع على هذا المنوال؟ و هل تريد أن تكمل أساساً؟ دفعتك الأصلية ستتخرج هذا العام و أنت لم ترها بعد. كل عام دراسى تنهيه فى السجن هو عام أقل ستقضيه فى الجامعة، فهل ستنهيها بدون أن تراها؟ و هل سيكتب لك أن تراها أصلاً حتى لو لم تنهها؟
أنت على مشارف الثانية و العشرين من عمرك. الثانية و العشرين! هل تستوعب؟ هل تفهم؟
مرت أربعة أعوامٍ كاملةٌ مكتملة. لم تعد فى السابعة عشر. لم تعد مراهقاً. أنت الآن ناضج. راشد. أقرانك الآن يعملون. يتزوجون. يخوضون الحياة. و أنت لم تر شيئاً منها بعد المدرسة.
كل من كنتَ تعرفهم و تحبهم بالخارج اختفوا. كبروا، تحولوا، تغيروا، نسوك، و اختفوا.
كل من كنتَ تعرفهم و تحبهم بالسجن اختفوا. رحلوا، ذهبوا لبيوتهم، انشغلوا، نسوك، و اختفوا.
و أنت الآن وحيد.
أضغط رأسى على الحديد أكثر لعل الألم يسكته. سمعت ما يكفى. ألا يكفينى همى لأسمع همك؟
يضحك ساخراً ضحكة خالية من الفكاهة. همى هو همك يا أحمق. ما أنا إلا أنت.
أحدق فى السماء و لا أرى. أحاول التركيز فيها وراء الخطوط المتداخلة. يلمع شئٌ من بعيد. لا يمكن أن تكون نجمة. السماء هنا خالية من النجوم لسبب أجهله. لا يوجد بها نجمة يتيمة حتى.
أركز أكثر.
طائرة.
أبتسم ببطء. ربما تحمل الطائرة أملاً أكثر من النجوم لى الآن.
أدندن بصوت خفيض:
“Can we pretend that airplanes in the night sky are like shooting stars?
I could really make a wish right now” أحاول سماع كلمات الأغنية بصوت Hailee Williams فى رأسى. أهز رأسى ببطء مع اللحن المتخيَّل.
يظن بعد أفراد الزنزانة أنى بدأت أفقد عقلى ربما. ربما هم محقون.
يقول على عزت بيجوفيتش أن الجنون فى الشباب هو شرط الحكمة فى الكبر. يرى أننا بدونه لن نستطيع أن نفهم العالم.
لكن، هل كنت حقاً أريد أن أفهم العالم؟ هل قيمة المعرفة تستحق ألم الفهم؟
لا أدرى.
لا أدرى.
-عبد الرحمن الجندي