مصطفي الاعصر – رمضان الثاني والموت “الاحتياطي” المستمر !

اسم السجين (اسم الشهرة) : مصطفي الاعصر

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 5/12/2019

السن وقت الاحتجاز: غير معلوم

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: صحفي

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

رمضان الثاني والموت “الاحتياطي” المستمر !

هذا هو رمضان الثاني لي دون الأصدقاء ..
الأصدقاء ؛ هم لي وأنا لهم .. أتذكرهم ؟ أنساهم ؟!
التذكر يؤلمني والنسيان يطعنني في قدرة عقلي علي الاستمرار والاحتفاظ بلحظات فارقة – حتي وإن كانت في نسق زمني غير متسق وغير متسلسل منطقيًا – لكن للعقل أساليبه الخاصه ، وهيهات أن يتبع ما نريد .
لحظات الذاكرة المغبَّشة ترهقني ، كأن جزءًا مني ينفصل عني وأتشبث به كي لا يلوذ بالفرار ، واللحظات الواضحة الجلية تدميني كلكمة بيد حديدية علي الوجه ، أما تلك التي بين بين فتقتلني لأنها تذكّرني بحالي ، أنا الذي وقعت في المنتصف ، اللارابح واللاخاسر ، اللاسعيد واللاتعيس ، اللاحر واللامقيد ، اللاحي واللاميت ، الموجود علي سبيل ” الاحتياط ” .. أنا التجسيد الحي لحالة الميوعة المزعجة !
السجن يقتلنا بالبطئ ، يفرّغنا من مضموننا الإنساني ، في كل ليلة يمص من دمائنا قطرة ، وفي الصباح يسحب من رئاتنا نفسًا ، يأخذ من أقدامنا خطوة في كل مرة يمنعنا من الحركة ، يأخذ من ألسنتنا الكلام في كل موقف نعجز فيه عن التعبير أو الشكوي أو الصراخ ، يأخذ كل هذا ويمنحنا في المقابل الخوف والأرق والكوابيس والروماتيزم وخشونة المفاصل وضمور العضلات وخلل في المشاعر وبطء في التفاعل وتكلس في العقل وندبات في القلب لا يمحي آثارها الزمن ، يسحب من عيوننا أشعة الضوء ومن رؤيتنا البصيرة ، يجردنا من كل شئ عدا رطوبة الزنازين وقسوتها ، يجرّد عقولنا من الذكريات والماضي والأفكار وكل الصور المخزَّنة سلفًا ، يصبح العقل صندوقًا فارغًا ، ويصبح الجسد جثة بلا روح ..
ينتشر الحزن في العقل كالسرطان ، يستشري في كل خلية حتي ينسي تمامًا ماذا كانت تعني السعادة ، حتي الضحك المسلوب قهرًا من شفاهنا يجعلني أتعجب لمَّ الضحك في خضم المأساة ؟ ، وهل الضحك هو الدليل علي السعادة والترادف المنطقي لها ؟ مَن الغبي الأحمق الذي وضع هذه المعادلة السخيفة ، قد نضحك لأننا – آسفين – أصبحنا لا نجيد البكاء .
ليست الأزمة في السجن فقط أننا نتعري أمام أنفسنا وأمام الجميع بسهولة ويسر ، ونظهر في تلك الصورة التي لا نرجوها لأنفسنا حتي نكره ذواتنا ، إنما أنه لا سبيل لتقديم أنفسنا في صورة بديلة كما نحبها ، وأنه لا وسيلة للهروب من هذا هذا الواقع الدميم ، فلا وسيلة فعالة لإلهاء العقل وانحراف مساره عن التفكير ، فكلما حاولت الابتعاد وإلهاء ذاتك بأية وسيلة تافهة متاحة تصطدم أنظارك بالجدران والقضبان والأبواب الموصدة لتطرحك أمام حقيقتك المخوَّخة والممثَّلة في الضعف والعجز وانعدام المصير ..
لا إلهاء في السجن ، تلك حقيقة يقينية كحقيقة الاحتباس الحراري ، لا إلهاء ولا هرب ، ليس من ثمة طريقة غير المواجهة ، والمواجهة لعدو لا نطيقه ولسنا أندادًا له تكسرنا في كل لحظة حتي لم يعد بنا ذرة صحيحة ..
تجارب قليلة لا يعود الإنسان بعدها مثلما كان ؛ أن يجرب الموت – مثلًا – في أحد أحبائه أو أن يعايش الموت – احتياطيًا – كسجين ..
وهذا الإنسان الجديد الذي يولد بعد انتهاء المحنة قد يعيش غربة أبدية عن ذاته ومجتمعه ومعارفه وأصدقائه ، قد يواجه احتقار الذات التي افتضحت ، وقد يختار الموت طوعًا كوسيلة فعالة للخلاص من السكاكين التي تمزقه ، أو ينغمس شعوريًا وفكريًا بشكل جذري في كل تجربة آتية بلا أي تفكير نقدي كوليد يحبو نحو الحياة ..
والأكيد أنه يُصاب بمرض البلادة وفرط الحساسية في نفس الوقت ، ليصبح شخصًا غريبًا مزعجًا ، صعب المراس ، لا يجيد التعاملات الإنسانية ، ولا يدري البشر العاديون كيف يسايرونه ، فتتولد لديه رغبة جديدة في الانعزال والبُعد المضني ، صراع جديد يمزقه إربا .. شئ أشبه بفيروس غريب يصيب المخ يمنعه من أداء وظائفه الإدراكية بالكفاءة المطلوبة ، شئ أشبه بخطأ فادح في البرمجة الإنسانية .
إن التجارب النفسية المؤذية كخيط دخان من تبغ السجائر المحروق ، قد تتلاشى في ثوانٍ إن تمكن الفرد من نفثها بعيدًا ، لكن آثارها المدمرة تظل رغم ذلك عالقة به رغمًا عنه ، كما يعلق الدخان بالرئتين والدماء والشعب الهوائية ، وكما تعلق نكهته بالفم لتعلن بوضوح لكل غريب قادم عن تقرحات في جدار الروح .. وكلما طالت مدة التجربة كلما ازداد الدمار .. فرفقًا بنا ، فنحن أكثر هشاشة مما نبدو ، وربما في ذات الوقت نكون أكثر صلابة مما تظنون .
للأصدقاء أقول :” ألازلتم تذكرونني في جلساتكم ؟!
لا أريد أن أخسر المقعد الأخير .”
مصطفى الأعصر
صحفي مصري..
محبوس احتياطيًا منذ ٤ فبراير ٢٠١٨ بدعوي نشر أخبار كاذبة.