رسائل جدران العزلة

Filters
عام تحرير أو نشر الرسالة
تصنيف مكان االحتجاز المرسل من خلاله الرسالة
اللغة
الفئة العمرية
النوع االجتماعي

علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد (علاء عبد الفتاح) – صورة للناشط خارج محبسه

علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد (علاء عبد الفتاح) – صورة للناشط خارج محبسه

تفتَّح وعينا على الانتفاضة الثانية، وخطونا أولى خطواتنا تزامنًا مع تساقط القنابل على بغداد. نظرنا حولنا فوجدنا أشقاءً عرب يصرخون: «‬ليس على حساب كرامتنا»‬، وحلفاءً في الشمال يهتفون: «‬ليس باسمنا»‬، ورفاقًا في الجنوب ينشدون: «‬عالم بديل ممكن». أدركنا أن العالم الذي ورثناه إلى زوال، كما أدركنا أننا لسنا وحدنا.أيقنّا محورية تكنولوجيا المعلومات في صياغة العالم الجديد وأدركنا انكشافنا أمام الاحتكارات العالمية، لذا تبنينا البرمجيات الحرة مفتوحة المصدر كضرورة لتطوير المجتمع وتحقيق استقلاليته، وكأداة رئيسية في تحديث الاقتصاد وإنهاء تبعيته. بدأنا بالدعوة، درنا على كل الجامعات، طلبة تحاضر أساتذة. نظمنا مؤتمرات ثم تدريبات. استهدفنا كل الفئات،‬ من مدرسي مادة الحاسب الآلي بالمدارس الإعدادية، لطلبة الهندسة، للقضاة والصحفيين. ربطنا بين نقدنا للآثار السلبية لمنظومة الملكية الفكرية على البرمجيات وآثارها على صناعة الأدوية، فوجدنا أنفسنا منخرطين في قضايا اجتماعية كالحق في الصحة. ربطنا بين نقدنا للشركات الاحتكارية ونقد منظومة العولمة على أسس الليبرالية الجديدة، فوجدنا نفسنا في تقاطع مع طيف واسع من النشطاء حول العالم.
سعينا للفهم.‬ لم نكتف ببروشورات الشركات وبيانات المنظمات الدولية وتصريحات المسؤولين.‬ قرأنا كل المتاح، وشاركنا في ترجمة بعض منه، وتجادلنا حوله. ثم انطلقنا في كل اتجاه:‬ مبادرات في السوق، ومبادرات في المجتمع المدني، ومبادرات في أي فضاء وجدناه حرًا ولو نسبيًا، مشاريع فكرية، ومشاريع اقتصادية، ومشاريع تنموية، ومشاريع خيرية. نقدنا السلطات، وهتفنا ضد الحكام كما تعاوننا مع المؤسسات حين أمكن (نقابات، جامعات، بل وأحيانًا وزارات) تواصلنا مع من سبقونا، تعلمنا منهم وعلمناهم. في المجمل رفضنا إرثهم لكن احترمنا تجربتهم.احتل توطين التكنولوجيا صدارة أولوياتنا. انخرطنا في تعريب المعجم، ثم ترجمة واجهات البرمجيات، كما علمنا الحاسوب قواعد العد والهجاء والصرف، صممنا خطوطًا، طورنا برمجيات، بنينا مواقع إلكترونية. مع الاهتمام بالتوطين وهندسة اللغة زاد اهتمامنا باللغة والثقافة العربية. فشبّكنا المدونين العرب وشجعنا الفنانين والكتاب والباحثين والمترجمين على إتاحة إبداعاتهم وما تحت أيديهم من تراث. وأثناء العمل على دعم المحتوى العربي على الشبكة اصطدمنا سريعًا بقيود الرقابة ومحاولات محاكمة وتكفير وحبس الكلمة. هكذا انضممنا لصفوف المدافعين عن حرية الرأي والتعبير والعقيدة وعن حرية الصحافة والحريات الأكاديمية.كما أسسنا شبكات إلكترونية وحركات سياسية أسسنا أيضًا شركات تقدم حلولًا وخدمات واستشارات للسوق المحلية، وسعينا لإقناع مستثمرين بضخ أموال، وإقناع مؤسسات باحتضان مشاريع خلاقة. أسسنا معامل ونوادي للتكنولوجيا بعشوائيات القاهرة وقرى الصعيد. بنينا شبكات لاسلكية لمد خدمة النت في أرياف مصر. ثم دعينا لنقل تلك الخبرات لإفريقيا جنوب الصحراء فانخرطنا في شبكات تسعى لإقرار الاتصال بالشبكة ودعم اللغات المحلية كأحد الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الأساسية.عندما انتبه العالم لوجودنا وصرنا مادة لمراكز الأبحاث وقصة تهم المراسلين أصررنا على طرح سردية خاصة بنا، ورفضنا أن تُفرض علينا سردية، وحللنا وكشفنا ارتباط السردية المطروحة بمصالح وانحيازات لا تعبر عنا. لذا دُعينا للمشاركة في مؤتمرات في مدن جنوب وشمال العالم.اشتبكنا مع الواقع وحاولنا تغييره والتأثير عليه واستباقه والمساهمة في صياغته. كنا طبعًا من أضعف الأطراف الحاضرة ولكن كنا حاضرين. في كل خطوة اصطدمنا بقيود أمنية وعوائق بيروقراطية ومؤسسات متكلسة وعلاقات قوة غير متوازنة. في كل مسار مشينا فيه فُرض على طموحنا سقف شديد الانخفاض واستهلكت جهودنا في الكثير من العبث.شاركنا في هذه الرحلة أقران كثر، كلٌ في مجاله. بعد عقد من الغضب والحلم، من العمل والفهم، من محاولات الإصلاح والتأقلم مع الهوامش، من التجربة والمطالبة والاعتراض، وصلنا كلنا لنفس الملاحظة: أن العالم كله مأزوم وفي طريقه للتغير، وأن مجتمعاتنا ستُسحق إذا لم نشتبك مع هذه التحديات. ومنها وصلنا لنفس النتيجة الحتمية؛ أن النظام الحاكم عائق أساسي أمام إطلاق طاقات المجتمع لتجديد نفسه وتحديث مؤسساته حتى يتمكن من الاشتباك مع هذه التحديات. لذا ما تفاجأنا بالثورة وإنما طلبناها، وما استغربنا إلهامها لحركات احتجاجية في أوروبا وأمريكا، ألم تلهمنا احتجاجات سياتل وجنوة؟ ألم نحتج معًا ضد الحرب على العراق؟ ألم ترتبط جهودنا في التغيير والإصلاح بنقاشات مفتوحة ونضالات مشتركة ومجتمعات افتراضية جامعة لرفاق من كل القارات؟ثم هُزمنا، وهزم معنا المعنى. ومن يوم هزيمتنا ما طرح موضوع مركب إلا وسُفّه سريعًا حتى يصعب الفهم ويستحيل الفعل. فأزمة الطاقة سببها موظف مرتشي بيلعب في السكينة، أو سببها غزة، وأزمة الدولار سببها تعيين ابن أخو عبد الحكيم عامر أو شركات صرافة إخوانية.حسمت السلطة أمرها، فالمعنى خطر، والانتصار له جريمة، والمشغولون به أعداء، وما سلوكيات مثل التواصل مع العالم لمحاولة إدراكه والتأثير فيه، أو نقد أوضاع قائمة والتحذير من أزمات قادمة، أو الانخراط في عمل فردي أو جماعي بغرض التأثير على الأسواق والمؤسسات، إلا إرهاصات لحروب الجيل الرابع.قُضي الأمر. هُزمنا وهُزم معنا المعنى، وكما كنا في كل خطوة نتأثر بالعالم ونؤثر فيه، كانت هزيمتنا عرضًا وسببًا لحرب أوسع على المعنى وعلى جريمة أن يسعى أفراد لمجال عام عابر للحدود يسعون فيه لتقارب وتبادل وتواصل، بل وتشاحن يسمح بفهم مشترك للواقع، وبأحلام متعددة بعوالم بديلة.أنا في السجن سعيًا من السلطة لأن تجعل منا عبرة. فلنكن عبرة إذن ولكن بإرادتنا.‬ الحرب ضد المعنى لم تُحسم بعد في باقي العالم.‬ لنكن عبرة لا فزاعة، لنتواصل مع العالم مجددًا، لا للاستغاثة ولا للبكاء على أطلال أو لبن مسكوب وإنما لاستنباط دروس وتلخيص خبرات وتكثيف مشاهدات عساها تفيد المناضلين في زمن ما بعد الحقيقة.عن نفسي لم أخرج من عقد الغضب إلا بدروس بسيطة، أهمها أن كل محطة من محطات الجدل والصراع في المجتمع فرصة، فرصة للفهم وفرصة للتشبيك وفرصة للحلم وفرصة للتخطيط. حتى لو بدت لنا الأمور بسيطة ومحسومة وحددنا انحيازًا مبكرًا لأحد أطراف الصراع، أو انصرافًا مبكراً عن الأمر برمته، يظل انتهاز تلك الفرص لتعاطي وإنتاج المعنى ضرورة، بدونها لن نتخطى الهزيمة أبدًا.تعلمت أن السلطة مجرد عائق. التحديات الحقيقية أممية، لذا تتضاعف أهمية انتهاز فرصة الجدل عندما يتعلق الصراع بأمور تتخطى الحدود.أخيرًا، الانحياز للطرف الأقوى غالبًا غير مفيد. القوي لا يحتاج منك إلا ترديد جمله الدعائية. الضعيف كثيرًا ما يكون مزعجًا بقدر ما هو منزعج. صاحب حجة هشة ومنطق متهافت بنفس مقدار هشاشة موقفه من المجتمع وتهافت أسباب أمانه وبقائه. لذا، فالانحياز له ولو على سبيل التجربة، محفز لتفكير وتحليل وتقصي وخيال أعمق.كنا، ثم هُزمنا، وهزم معنا المعنى. ولكن لم نفنَ بعد وما قُتِل المعنى. ربما كانت هزيمتنا حتمية، ولكن الفوضى الحالية التي تجتاح العالم سيتمخض عنها عاجلًا أم آجلًا عالم جديد، عالم سيحكمه ويديره بالطبع المنتصرون، ولكن لن يقيد الأقوياء، ويصيغ هوامش الحرية والعدل، ويحدد مساحات الجمال وإمكانات العيش المشترك إلا ضعفاء تمسكوا بالانتصار للمعنى، حتى بعد الهزيمة.

مصطفي جمال عوض – حقنة غلط في الوريد

مصطفي جمال عوض – حقنة غلط في الوريد

ادوني حقنة غلط في الوريد عشان يوقفوا النزيف قبل ما أروح المستشفي وفضل النزيف شغال وجالي هبوط حاد ولما قاسولي السكر لقوه( 470) ودخلت في غيبوبة راحو حولوني المستشفى.
ولما روحت هناك دخلوني العناية المركزة ولما السكر والضغط ظبط خرجوني من العناية لكن النزيف بردو فضل موجود !
ولما كشفت عند دكتور مسالك قالي عندك تضخم في الكبد وتضخم في الطحال بنسبة كبيرة وفي إرتجاع في الكلية الشمال وتضخم في جدار المثانة وإحتمال إن تضخم جدار المثانة يكون نتيجة سرطان ولازم تعمل اشعة بالصبغه علي المثانة و أشعة مقطعية ضروري جداً ولما قولت لاستاذ مجدي مدير العيادة إني لازم أعمل اشعة وهدفع أنا فلوسها قالي لازم دي احنا اللي نقول عليها ونحددها ولو مسكتش هرجعك السجن تاني.

محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – في الأُفُقِ نُورْ

محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – في الأُفُقِ نُورْ

[في الأُفُقِ نُورْ]
(1)
اسْمَحْ لي أن أحكيَ لكَ. هذا ما حدث بالضبط. منذ شهور, رئيس مباحث السجن بلهجةٍ صارمةِ فاجأ الجميع بعد أن فتح باب الزنزانة ليلًا, وطلب منا الخروج لساحة العنبر ريثما ينتهون من تفتيش زنزانتنا. الكل تعجب إذ لا تفتيشات ليلية هكذا. وابتسمتُ أنا, إذ كنت أوقن أن الله طيبٌ, وأحسُ أنه سيحقق لي رغبتي البسيطة قريبًا.
لا يُفتح الباب ليلًا للمعتقلين, إلا في حالة مرض أحدهم بشدة تستدعي الخروج وحدَه لتلقي علاج بائس من مستشفى السجن. قبل دخول "الباشا" بساعات كنتُ أسأل الله أن نخرج سويًا لنرى سماء الليل.. لنأنس لسكونه.. لنتنفس رائحته بعيدًا عن عطن الزنزانة, وقد كان. خرجنا, وانطلقت كمهرٍ انفّكَ لجامه في حقلٍ فسيح. كنت أركض حافيًا بفرحٍ طفولي يبدو غريبًا داخل مشهد تؤطره الجدران والقضبان. سرت بيننا حالة من اللعب والمرح, وبين الضباط حالة من الذهول أو الاستهجان ربما, لم أهتم. كنت أنظر للسماء, أقفز, أتنفسُ, أشكرُ الله, وأغني..
بعد الفورة الأولى, استلقيتُ أرضًا على ظهري. أطبقتُ جفني فداهمتني رغبة عنيفة أن أفتح أبواب الزنازن كلها ليشاركني جميع السجناء الانطلاق. قمتُ, ألصقت وجهي بالقضبان وأمسكتها كمن يريد ثنيها بينما أتأمل الأبواب المصفدة. لحظتها كان رفاق الزنزانة بدأوا التَحَلُّق في مجموعات ثرثرةٍ متناثرة. رغبتي تزداد إلحاحًا ولكن لا سبيل. السجن يروّض رغبات الإنسان بسياط القضبان, حتى تمسي خاضعة بشكل ما. قد يستطيع المرء أن يؤلف نغماتِ رغباته الحبيسة لحنًا رائقًا, فيصل لحالة من الصفاء الروحي لا يعرفها إلا الرهبان في صوامعهم, المتصوفون في خلواتهم وبعض السجناء في زنازنهم. وقد لا يستطيع المرء, فتندفع هذه الرغبات إلى الداخل بدلًا من الخارج وتغدو مُركّبَات كبتٍ حادة تدفع صاحبها إلى الانهيار أو التطرف. هكذا كنت أفكر عندما طلب مني أحد رفاق مجموعات الثرثرة بصوتٍ عالٍ, وبلا مقدمات "فوزي.. ألق لنا قصيدة". أصبح مطلبًا جماعيًا في ثوان خلالها كنت قد حسمت أمري: "قد لا يكون بوسعي أن أفتح الأبواب.. لكنني سأثقب في كل جدار ثغرة".
وقفتُ في منتصف الساحة.. ألقيت مقطعًا من الرقيم.. طلبوا المزيد.. حكيتُ لهم عن أحلام المتنبي الشاعر النبيل, واستبداد كافور الحاكم الخصي.. ثم ألقيتُ "للمُتنبي أقوالٌ أخرى", ليبدأ الرفاق داخل زنازنهم في التجمع حول فتحات الشبابيك ونظارات الأبواب, وأسمع منهم صيحات إعجاب, طلبات مواصلة, أو.. تكبيرات! لم أفتح لهم الأبواب لينطلقوا معي كما تمنيت, لكنني لم أرضخ. الضباط أنفسهم وقفوا متأهبين منذ بدأتُ الإلقاء, وكأنني أشهرتُ سلاحًا في وجوههم.. لم أهتم بهم. فقط كنت أحاول أن أحمّل نبراتي شيئًا من سعة السماء.. من لطف النسمات.. ومن جموح الليل لأمرره للرفاق في زنازنهم. صوتي كان عاليًا يكادُ يدق الحديد قبل أن يدخل لهم, وإلقائي كان حقيقيًا كما وصفه لي بعد ذلك رفيق الرحلة وسَنَدِهَا.. مُصطفى.
في تلك الليلة, قبل أن أنام, قفزت إلى ذاكرتي الجملة التي لم تَغِبْ عنها منذ اعتُقِلْتُ. "صوتك عالي.. وما بتسكتش". قالها لي ضابط في سلخانة التعذيب لم يشترك مع أصدقائه في حفلة اللكمات, حاول أن يلعب معي دور الودود الرحيم لينتزع من المعلومات ما عجز عنه أصدقائه. قال بعد أن يئسَ أنه متأكدٌ أن لا علاقة لي بالقضية محّل التحقيق, ولا بأي شكلٍ من أشكال العُنف أو "الشقاوة" على حد تعبيره, وأنني جئتُ هنا, ولابد أن أبقى فقط لأنَّ "صوتك عالي.. وما بتسكتش"
أكتبُ لكَ الآن وأعرفُ أن الضابطَ الودودَ, ربمَّا يقرأُ هذه الأسطر بنفسه.. اسْمَح لي أن أخاطِبُهُ: "مرحبًا بكَ مرةً أُخرى يا "باشا". هل تذكرني؟ أنا بالطبع لم أبصر وجهكَ لأذكره أصلًا, لا أذكر عن لقائنا سوى الظلام الذي أسكَنتْنِي فيه غَمَامتُكَ.. الظلام الذي علّمني كيف أقدس النور, وأحميه, وأمررُه للرفاق داخل زنازنهم ولو على جناحي قصيدة.. آه, وبالمناسبة أودُّ أن أؤكد لك, صوتي أصبح أعلى.. وأعلى.. ولن أسكت".
(2)
"إن مسيرة النضال هي ذاتها مسيرة المعرفة, فهي مسيرة باردة يعتريها الشعور بالوحدة والخوف من المجهول.. في حالة السجن كما في حالة الحصار, قمة النضال هي أن تبقى قادرًا على السؤال.." – ميلاد.
اليوم هو أوّل أيام عامي الرابع داخل السجن. عمري تجاوز ربع القرن بأشهر. كبرتُ. صارت لي ذاكرة تغصُ بالندوب. أعترف أنني خلال هذه السنوات مررتُ بحالاتٍ من الوهن, اهتز فيها إيماني بذاتي.. بمبادئي.. بل وبالله أحيانًا. لكنني عُدتُ. دائمًا ما أعود عبر الكتابة, الكتابة هي سؤالي, هي طريقتي الوحيدة لأسائل هذا العالم, وأتحدّاه في بحثٍ عن معنى الحق, الخير, الجمال, العدل.. والحب. الكتابة هي طريقتي الوحيدة لأنير لنفسي وللبشر من حولي طريقًا نفتش فيه معًا عن الحقيقة, بعيدًا عن منحدرات الزيف وفخاخ الصمت. إن الكلمة سرُّ هذه الحياة وسحرُها. "اقرأ". "في البدء كانت الكلمة". يؤمنُ البشر بهذه الحقيقة لكنهم كثيرًا ما ينسونها, ويستسلمونَ للصمتِ حين تحيطُ بهم طلقات الجنرالات المستبدين.. أذرع البنوك الأخطبوطية.. أو جدران السجونِ السميكة.
نصحني بعض أصدقائي أن أكتب عن أشياء أخرى مُنطلقًا خارج السجن, وبقيتُ أنا مُصِّرًا أن أغوص لعمق السجن أكثر قراءةً وكتابةً. أفتش عن أدب السجون دائمًا. أريدُ أن أعرف ماذا كتب هؤلاء البشر اللذين تعلقوا مثلي أحياءً في قبور, أن أعرف كيف يواجه الإنسان مصيره.. ويحمي ذاته من التآكل. للسجون جدرانٌ كالمرايا, يستطيع المرء أن يرى روحه عارية فيها بدقة متناهية. هنا تستطيع أن ترى الإنسان في نبله وخسته, في بطولته وعجزه. إن السجن تحدٍ شامل للإنسان على قدرته أن يظلّ.. إنسانًا.
يقول صديقنا ميلاد _ الذي لا أعرف إن كان شخصية حقيقية أم متخيلة, فقط استمعتُ لتسجيلٍ منقولٍ عن رسالة كتبها من سجنه, فاتخذته صديقًا, وأوردت الاقتباس في أول الفقرة من رسالته.._ يقول: "إن الكف عن الشعور بالصدمة والذهول أو بأحزان الناس ومعاناتهم, وإن تبلُّد المشاعر أمام مشاهد الفظائع كان بالنسبة لي هاجسي اليومي ومقياسي لمدى صمودي وصلابتي.. جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة, وجوهره الجسدي هو العمل, وجوهره الروحي هو الإحساس.. والإحساس بالناس وبألم البشر هو جوهر الحضارة الإنسانية, وهذا الجوهر تحديدًا هو المستهدف في حياة السجن عبر الساعاتِ, والأيام, والسنين..."
أقرأ وأكتب لأحمي هذا الجوهر من الضياع. بوسعي أن أجزم الآن أن الشعر تحديدًا طوال هذه السنوات كان كوة النور التي تحميني من فقدان هذا الجوهر. قد لا تقوى القصيدة لفتح باب أو هدم سور, وقد تظل الكلمات طيورًا مهاجرة بين سماوات القلوب لدهور دون أن تحط بعشٍ واحدٍ في وطن قائلها, لكنها دائمًا _وإن طال المدى_ تعود لأوطانها حاملة النورَ الحقيقيَّ الكفيل بتغيير هذه الأوطان.
حالًا بينما أخط لك هذه الأسطر, عادني ذكرى لقائي البعيد والوحيد معك, بعد أحد لقاءات الجمعية الوطنية للتغيير:
- طب حضرتك تفتكر العمل الثقافي أقدر وأولى في تغيير البلد ولّا العمل السياسي؟
= بص.. إن لم نشارك جميعًا في تغيير الأوضاع السياسية لمصر ستبقى كل محاولات
البناء
الثقافي كالحفر في الماء والنحت في الهواء. لازم الثقافة, الفن, الأدب والشعر يشاركوا في
التغيير دا.. بجدية.
صاحب الإجابة كنت أنتَ الشاعر عبد الرحمن يوسف, منذ ست سنوات, في نهاية عام 2010 تقريبًا, وصاحب السؤال كنتُ أنا, أو للدقة ذلك الفتى في عامه التاسع عشر والذي شاركتَ أنتَ بشعرك وبتواجدك السياسي في تشكيل وجدانِهِ. سألتُكَ. أجبتني. ذهبتُ بعدها وجوابك مُحلقٌ في ذاكرتي.. أذكره جيدًا.. أذكر ابتسامتك.. نبرة صوتك المشعة بالأمل رغم ما كانت تعانيه مصر.. كما وأذكر جدًا القصيدة التي ألقيتَها أنتَ يومئذٍ "في الأُفقِ نور".
لم أكن أتخيل أن السنوات ستمر خطفًا هكذا, وأنك بنفسك من ستكتب لي مقدمة ديواني الأول. فرحتُ بحقٍ عندما قرأتُ المقدمة.. وقررتُ أن أكتب لك لأحكي بعضًا مما نعايشه بالداخل, حكيتُ ليلة التفتيش تلك تحديدًا لأني أحبها, ولأنها _لسبب ما لا أعرفه_ مرتبطةٌ في ذاكرتي بِكَ.
أستاذ عبد الرحمن يوسف, هل تسمح هذه الذاكرة المشتركة بيننا أن أُبدِّلَ النداءَ فأقول "صديقي"؟ صديقي القريب رغم الأسوار والمسافات أشكُركَ.
أشكركَ لأنَّكَ مازلتَ حُرًّا وثائرًا كما عرفتك دومًا. وأشكُركَ لكلماتِكَ الراقية في مقدمة الرقيم. وأعاهدك أنني هاهنا في أحلك بُقعَةٍ من الظلام الذي يُحيطُ أوطاننا سأبقي القصيدة في ضلوعي سراجًا.. لا يستطيعُ السجَّان إطفاءَهُ أبدًا. وسأبقى رغم كل هذا الظلام أؤمن معَكَ دائمًا أنَّهُ "في الأُفُقِ نُور".
مارس 2017

احمد الخطيب – عندما كُنا صغارًا

احمد الخطيب – عندما كُنا صغارًا

عندما كُنا صغارًا كنت أظن أن الموت لا يحصد إلا من شاب شعره؛ ولكن في زمننا هذا
أصبح الموت لا يخطف إلا من هو صغيرًا، أصبح الموت يلاحقني يا أُمي وأنا لا أتعدى الـ ٢٥ عامًا من عمري، المرض يا أُمي جعلني قريبًا جدًا من الموت وأنا لاحول لي ولا قوة.
أكتب لكي يا أُمي وأنا أشعر بالموت مئات المرات، وأنا بعيد عن حضنك الدافئ، لكم كُنت أتمنى أنا أهنئك بعيدك: "كل عيد أم وأنت سعيدة" ولكن هذا ما استطعت أن أكتبه لكِ وأنا قابع
وسط أربع حيطان: "خائفٌ أنا.. ليس من المرض ولكن أن أظل هنا وأموت بين جدران هذه الزنزانة البالية وأصبح فقط مجرد رقم في تعداد الموتى.. كما أنا الآن مجرد رقم هنا!".
يرفض عقلي التفكير في أن أموت هنا بعيدًا عنك يا أمي وعن إخوتي..
أخاف أن أموت وحيدًا وسط أربع حيطان !".
أنا أحمد عبدالوهاب الخطيب، يقولون أنني مصاب بداء "الليشمانيا الحشوي" الذي سأسلم له روحي آجلا أم عاجلًا يا أُمي، فالمرض الآن يا أمي يلعب لعبة الموت الأخيرة، فهو يدمر
مناعتي بعد أن كنتِ تحميها في الصغر، أصبح يدمر كرات الدم، الكبد، الطحال، والمعدة،أصبح ينهش جسدي وأنا مكتوف الأيدي.
يقولون يا أمي أن مرضي نادر وخطير ومميت وليس له علاج؛ ولكن هل تعرفين ماهو المُميت بالنسبه لي؟ عدم وجودك بجواري وأنا على فراش المرض كما كنتِ تراعيني في الصغر، ياليت لو يعود بي الزمن يا أُمي مرة أخرى وأنا بين أحضانك ما كنت أتمنى أن
أصير شابًا ولو لحظة.
مر زمن كأنه ما مر، ومر زمن كأنه سنوات طوال فهل تشرق الشمس مرة أخرى وأنا مبتسم
حي أم تشرق وأنا راكد تحت التراب لعله ينصفني وتتحقق العدالة الأبدية.

عصام عبد الرحمن سلطان – السيد المستشار/ رئيس محكمة جنايات القاهرة

عصام عبد الرحمن سلطان – السيد المستشار/ رئيس محكمة جنايات القاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد المستشار / رئيس محكمة جنايات القاهرة المنعقدة بمعهد أمناء الشرطة 21 مارس 2017

يتقدم بهذا / عصام سلطان الوارد اسمي بقرار اتهام قضية فض رابعة المنظورة بجلسة اليوم بالآتي:
على إثر رفضي المشاركة في مشهد الانقلاب مساء يوم 3-7-2013 بمقر وزارة الدفاع ، أصدر الجنرال قائد الانقلاب العسكري قراره باعتقالي يوم 4-/7-2013 وبدأت عملية مساومة لالغاء القرار مقابل تأييدي للانقلاب فرفضت، وبعد أيام تم القبض علي بتاريخ 29-7-2013 وتجددت المساومات وتجدد رفضي بل واصراري على رفض الانقلاب.
ومنذ إيداعي سجن العقرب بما فيه من انتهاك لكافة الحقوق الآدمية من تعذيب ومنع الطعام والشراب والدواء والكتب والزيارة وغير ذلك والمساومات لا تتوقف ورفضي يستمر في تأييد الانقلاب العسكري. وكلما أوشكت مدد الحبس الاحتياطي على الانتهاء يصدر الجنرال قائد الانقلاب التعليمات بقضية أخرى.
فصدرت تعليماته بحبسي سنة بتهمة “السلام عليكم” وإلقاء السلام على جنود الأمن المركزي لعلي أؤيد الانقلاب فازددت إصرارا على رفضي ثم صدرت تعليماته بحبسي سنة أخرى بتهمة ضرب لواء شرطة لأؤيد الانقلاب فازددت عزما على رفضي كذلك.
فصدرت تعليمات مؤخرا بوضع اسمي ضمن المتهمين في قضية فض اعتصام رابعة العدوية الذي جرت وقائعه يوم 14-8-2013 أي بعد صدور تعليماته الأولى بالقبض عليّ بأربعين يوما وبعدالقبض الفعلي علي بستة عشر يوما !!!
لتبدأ سلسلة جديدة من المساومات لتأييدي الانقلاب فيتم حرماني من جميع حقوقي أمامكم من استلام قرار الإحالة وأوراق القضية والالتقاء بالمحامين وغير ذلك لإجباري على تأييد الانقلاب وإلا سوف يحكم بإعدامي !
السيد المستشار / إما أن تعيد إلي حقوقي كاملة بمحاكمة صحيحة وضمانات مكفولة حسب نص الدستور والقانون والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر وإما أن تنفذ تعليمات قائد الانقلاب وفي هذه الحالة فلا داعي لعرض الأحراز أو سماع الشهود أو غير ذلك والأفضل أن تحكم بإعدامي مثل قضاة كثر حكموا بإعدام 528 مصريا من أول جلسة محاكمة وبدون أية إجراءات أما أنا فإن إجابتي واضحة جدا وهي:
“لن أؤيد الانقلاب العسكري ومرحبا بالبدلة الحمراء“

احمد الخطيب – أمي قد اشتقت إليك كثيرًا

احمد الخطيب – أمي قد اشتقت إليك كثيرًا

امي قد اشتقت إليك كثيرا. عذرا إليكي ع ذلك الواقع الاليم الذي قد أحاط بنا وفرض علينا من الامور بما لا نحب فلا تبكي فلا تبكي فقطرات دمعك تحدث من الأنين صدي في صدري اكتب إليكم كلماتي هذه وقد تاهت مني وأصبح قلمي متلعثم في كلمات ضعيفه لكن انتم حديث قلبي ولساني لقد اصبحت الان بعد طول المكوث هنا في هذا المكان البالي العفن في حاله من التشويش والهذيان ولبست ثوبا قبيحا يائسا لا احبب المكوث فيه في ظل ظلمه ليل بليد كثر فيه الالام في صمت وسكون، وذهول ممن اشفقوا علي بود فارقه الحب. وبعدما كسر السكون طبعي وغاب الصبر عني واصبحت في مواجه الزمن وجها لوجه اترقب كسر قوته واترقب حالي من ضعف واسف وخجل من امري. هويتي اصبحت اذكر نفسي بها فالسجن لا يسلب منا الحريه فقط بل يحاول أن ينسينا هوياتنا فتتاسقط وكذالك يسلب منا صحتنا واعمارنا. اكثر من سبع اشهر مضت وانا علي حالي هذا اعاني من مرض ولا اعلم ماهو احاول ان اقاوم حتي لا يظهر علي الانهاك والتعب الذي افتك بي لكن في الحقيقه اصبحت لا اقوي ع شيء. خائف انا ليس من المرض ولكن أن أظل هنا واموت بين جدران هذه الزنزانه الباليه وأصبح فقط مجرد رقم في تعداد الموتي كما انا الان مجرد رقم هنا،يرفض عقلي التفكير في أن اموت هنا بعيدا عنك يا امي واخوتي ...اخاف أن اموت وحيدا وسط اربع حيطان.

عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – تَوَقَّفْ عن الصراخ! تَوَقَّفْ!

عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – تَوَقَّفْ عن الصراخ! تَوَقَّفْ!

تَوَقَّفْ عن الصراخ! تَوَقَّفْ!
أكرهه وأبغضه و أمقته هذا القلب الساذج اللعين.
يتقطع ألماً مبرحاً لا أطيقه. و يصرخ. يصرخ صراخ كائنٍ معذَّبٍ تُنْتَزَعُ أظفاره بكَلَّابةٍ و يُسلَخُ جلده ببطءٍ يجعله يتلوَّى فى ألم يُذهِبُ العقل.
ذهبوا جميعاً و تركونى. لا أب. لا أخ. لا رفيق. تركونى وحيداً وحيداً. أصرخ وحيداً. أبكى وحيداً. أتلوَّى وحيداً. لم أدرك من قبل قيمة حبيبٍ تبكى على كتفه و تشاركه الأحزان. ينقسم الوزن على اثنين. لكنى الآن أحمله وحدى و لا أقوى على حمله. انهوى فوق ظهرى قاسماً إياه و مُحَطِّماً ضلوعى.
فرحٌ أنا أشد الفرح لخروجهم من هذا الجحيم. لكن لم لستُ معهم؟
كنت وسط فرحتهم غريباً. دخيلاً. مُكدِّراً لصفوها. أسمع أحلامهم و خططهم عندما يخرجون بعد ساعات، و نظرات الشفقة من العشرات، لأنهم ذاهبون. أما أنا فباقٍ.
أرقد وراءهم فى الأطلال. حيث كل شبر يحمل ذكرى. هنا جلست مع عبدالرحمن عارف، هنا سهرنا طوال الليل نطيل الكلام، هنا صلَّينا، و هنا ضحكنا، و هنا افترقنا. أبكى بحرقة على قلبٍ أحمقَ يحب و يتعلق ثم يتقطَّع عند الفراق. ثم ما يلبث أن يحب و يتعلق ثم يتقطَّع. حتى لم يبق فيه موضعُ إصبعٍ سليم.
صار مُرَقَّعاً. و به الآن هذا الجرح الجديد العميق عن سابقيه.

أتذكر وجه أبى. العناق الأخير و الكلمة الأخيرة. أتذكر كل وجه أحببته و آخر لحظة. كلهم منطبعون فى ذاكرتى. و مع كل ذكرى تسيل من الجرح الدماء.
لا يتوقف عن الصراخ. و لا تتوقف العين عن البكاء. و لا تتوقف الروح عن الاحتراق. لم لستُ معهم؟ ماذا جنيت؟ سأقضى الخمسة عشر عاماً. أدرك مجهشاً بالبكاء.
سأقضى الخمسة عشر عاماً. و سأقضيهم وحيداً.
تدُبُّ الآلام بيديها و قدميها فى عقلى و روحى و قلبى و تزلزلهم. لا أستطيع حتى النوم.
لا أستطيع الهرب. مُكَبَّلٌ و يُصَبُّ علىَّ الوجعُ صَبّاً.
أريد أن يتوقف قلبى عن الصراخ.
أريد أن يتوقف عن الشعور.
أريد أن يتوقف تماماً.
لأنى بين اللامبالاة و الحزن، حقاً سأختار الآن اللامبالاة.
و لتذهب إنسانيتى إلى الجحيم.

حلمٌ مؤلم.
بعد أن رحل الناس و خَلَّفونى وراءهم وحيداً، قررت فى الحلم أن أسير وراءهم. وددت أن أشاهدهم بعد خروجهم فى العفو و إن لم أكن معهم.
مشيت حتى وصلت لباب السجن. كانوا قد خرجوا بالفعل. نظرت فوجدت الباب مفتوحاً ما زال. ركضت لأخرج إليهم فإذا بى أرتطم بحاجز غير مرئى. ألمسه فإذا هو أشبه بالزجاج. أحاول ركله لكنه لا ينصاع تحت وطأة ضرباتى. أستسلم و أقف وراءه أشاهد. المئات بالخارج. الأحضان و القبلات و التهانى فى كل مكان. الجو يُشِعُّ سعادة تملؤنى دفئاً و برداً فى ذات الوقت لأنى أعلم أنها ليست من حقى.
أدور ببصرى فيمن كانوا منذ دقائق زملائى بالزنازين.
فجأة أراهم.
أبى. أمى. أخى. أختى.
تفيض عيناى بالدموع و أنا أشاهدهم يحتضنونه و يمطرونه بالقبلات. ما زال فى زيه الأزرق.
يهفو قلبى فى توقٍ حارقٍ أن يكون معهم. وسطهم. منهم.
أدبُّ بقبضتىّ على الزجاج اللعين عَلَّهم يسمعوننى. أشير بيدىّ فى جنون متقافزاً.
لا ينظرون ناحيتى. أدرك أنى أراهم و لا يروننى. أسمعهم و لا يسمعوننى.
أجد أيدٍ تجذبنى من الخلف و ضابطاً يصرخ أن أعيدوه لزنزانته.
ماذا يفعل هذا المسجون قرب الأحرار؟
أحاول إفهامه أنهم أسرتى. أن أبى خرج من هذا الزجاج منذ دقائق. أتوسل إليه أن يسمح لى أن أكون معهم دقيقة. سأرجع. أقسم أنى سأرجع.
يضحك ساخراً من تعدىَّ لحدودى السجينة، ويشير لهم أن اسحبوه.
أحاول أن أقاوم بعنف و أصرخ لأسرتى وسط دموعى المنهمرة. لكن الأيدى لا تلين.
و الزجاج ما زال كالسدّ.
أستيقظ و دموعى تُبلِّل وجهى.
أريد أن أكون عدماً. العدم لا يتألم هكذا.
قلبى اهترأ.

محمد ابو الفتوح – ليه مش عايزين يخرجوا أحمد الخطيب يتعالج؟!

محمد ابو الفتوح – ليه مش عايزين يخرجوا أحمد الخطيب يتعالج؟!

انا بعت الرسالة دي علشان الناس اللي بتسأل ليه مش عايزين يخرجوا أحمد الخطيب يتعالج؟! أيه الخطورة اللي ممكن يسبببها خروج أجمد الخطيب لو خرج يعمل الفحوصات اللازمة؟! الناس اللي مفكرة إن في مشكلة في التأمين أو الأمكانيات أو عدم توافر العلاج أو أي حاجة من الكلام دا.. الموضوع أكبر من كدا بكتير".
"إسمعوا القصة دي وانتوا تفهموا كل حاجة، بعد ما فكيت الإضراب عن الطعام اللي كنت عامله من فترة، حصلت معايا شوية مضاعفات وبقيت أحس بتعب مستمر، وطبعًا إحنا في سجن ملحق ليمان وادي النطرون مفيش مستشفى أصلًا، هي غرفة صغيره كدا فيها سرير ودولاب فيه شوية أدوية وأغلبها مسكنات وأي حد بيتعب بيتم ترحيله لمستشفى سجن تاني إمكانيتها لا يمكن أن يطلق عليها مستشفى بأي حال من الأحوال".
" بعد سلسلة طويلة جدًا من الإجراءات والأوراق، وطبعًا لازم إذن أمن الدولة اللي مفيش حاجة بتمشي من غيره يعني ممكن يكون المريض مات أو حصل له مضاعفات خطيرة على أحسن تقدير، المهم علشان أنا كنت عامل إضراب السجن إهتم بيا علشان يخلصوا من الدوشة بتاعتي، طلبوا مني تحاليل وخلوا عسكري كل يوم ياخد عينات الدم مني ويطلع بيها برا السجن يعمل التحاليل في معمل البرج ويرجع بالنتيجة تاني يوم وهكذا، طبعًا الكلام دا كله على حسابي الشخصي، والموضوع كان مكلف جدا".
" ودي كانت أول مره أروح فيها مستشفي السجن كما يسمونها، وأختلط بالناس اللي بتتردد كل يوم، شوفت حالات صعبة كتير، وحالتهم أكثر خطورة من حالتي مستنين بقالهم كتير علشان يعملوا التحاليل دي، أو يخرجوا مستشفى برا، وطبعا كل الناس كانت بتبص على إني حصل معايا معجزة، وفي اليوم اد كنت بتقطع من جوايا حاسس بعجز رهيب، كذا حد طلب مني أكلم رئيس مباحث السجن علشان يعمل تحاليل زيي، كان في ناس كبيرة في السن وعندها الكبد واشتباه في سل واشتباه في سرطان، المهم دخلت وانا متعصب في اليوم دا على رئيس المباحث والمأمور قولتلهم حرام اللي بيحصل في الناس دا، حقهم يتعالجوا، أنتو هتخسروا أيه لو رحلتوهم مستشفيات برا، قالي مش من سلطتي ولازم تصريح أمن الدولة، والمستشفى عندي مش مجهزة".
"عرفت إني مش هوصل معاهم لحل، دخلت الزنزانة وانا عيني بتدمع أقسم بالله، واحد صاحبي طبيب أسنان قالي مالك حكتله على القصة كلها، ابتسم وقالي والله انا كمان اتكلمت مع رئيس المباحث في نفس الموضوع، عرضت عليه أجيب المعدات اللي في عيادتي برا بدل ما هي مركونة ومحدش بيستخدمها واشتغل لحالات الاسنان اللي في السجن، سألته على رد رئيس المباحث عليه ، قال هفكر وارد عليك، قولتله هو معمل التحاليل يتكلف كام تقريبا، قالي مش عارف بس في دكتور تحاليل معانا هنا ممكن نسأله المهم سألنا الدكتور وكتب لنا أسماء الأجهزة اللي ممكن تعمل التحاليل الضرورية، وبدأت أتكلم مع ناس جوا وبره السجن اننا نعمل معمل تحاليل وعيادة اسنان ونوفر أدوية من برا للحالات الصعبه".
"بالفعل بدأنا نلم تبرعات من برا وجوا السجن، وبفضل الله وبعض الناس مش هينفع اذكر أسمائهم جمعنا مبلغ كبير وجبنا أجهزة معمل تحاليل مصغر، وجهزنا عيادة الأسنان بعد تعب شديد ومجهود شاق، روحنا للمباحث وعرضنا عليهم الموضوع اننا نجهز مستشفى السجن والأجهزة جات برا عايزين بس اذن علشان تدخل، قالي لازم جواب تبرع من جمعية انكم اتبرعتم بالاجهزة دي للسجن، قلتله بس بشرط الأطباء اللي معتقلين معاانا عما اللي يعالجوا المرضى، قالي موافق".
"دوخنا على ماجبنا جواب تبرع من جمعية طبعا كل الجمعيات كانت خايفة تعمل جواب تبرع لمعتقلين، بس الحمد لله في ناس ساعدتنا وعملنا الجواب والأجهزة دخلت السجن، بدأنا نعمل حصر بأسماء الأطباء اللي معانا في السجن والتخصصات علشان يعالجوا الناس ويشخصوا الحالات وإحنا نوفر العلاج، وهنا كانت الصدمة".
"رئيس المباحث قالنا أمن الدولة مش موافق إن أطباء معتقلين هما اللي يكشفوا عليكم، قلنا طيب وفروا أطباء معتقليين هما اللي يكشفوا على الناس ويشغلوا الأجهزة دي، قالي هنبعت مذكرة لمصلحة السجون علشان يوفروا أطباء ومن ساعتها ولا حس ولا خبر والأجهزة مركونة في الكراتين بتاعتها، وسايبين الناس بتموت كل يوم ولا عايزين يعالجونا ولا سيبينا نعالج نفسنا، أقسم بالله كل الناس صحتها في النازل حتي الشباب، لو بصيت لصورة حد قبل وبعد الاعتقال هتفهم قصدي، يعني من الأخر اللي فلت من رصاص الداخلية برا، بيموت بالأهمال والعيشة غير الأدمية جوا السجون، واللي بيطلع من السجن واقف على رجليه بيكون مشوه من جوا محطم" .
"عرفتوا ليه مش عايزين يعالجوا أحمد الخطيب علشان ببساطة عايزين يقتلوه وعايزين يخلوه عبره، علشان يوصلكم رسالة إنكم مش فارقين معاهم انتوا شعب ميت من الاخر، في كتير جدا زي أحمد الخطيب بيموت كل يوم في صمت، أحمد الخطيب مش هيكون أو ولا أخر ضحية".
"إنتظروا فالقادم أسوأ"
محمد أبو الفتوح
سجن ملحق وادي النطرون
11/3/2017

ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – زنزانة الطلبة

ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – زنزانة الطلبة

"زنزانة الطلبة"

"كل عام قبل الإمتحانات نتجمع نحن الطلبة من جميع أنحاء السجون، و كافة الكليات و الجامعات هنا.. في سجن طرة.

زنزانة الطلبة لها روح مختلفة.. روح شبابية..
رغم ما نراه من بهدلة بسبب الترحيلة، لكننا نتظر كل عام كي نلتقي لأيام معدودة ثم يتم ترحيل الجميع مرة أخرى.. كلٌ إلى "سجنه".
بالنسبة إلينا من يأتون من سجون شديدة الحراسة الزنزانة واسعة.. على الأقل يمكن التحرك فيها.
المساحة المخصصة للنوم (النمرة) واسعة نسبياً.. يوجد حمامان و التهوية أفضل.
قبل إمتحاني الأخير بيوم، كنت جالساً في ركن الزنزانة أذاكر.. الملازم مبعثرة من حولي ماعدا واحدة في إحدى يدي.. و قلم في الأخرى.. الجو شديد البرودة.. على رأسي (الكابيشون) و بداخل رأسي أرقام و معادلات متناثرة..
أحدق في الملزمة.. أحاول فك ألغازها.. لا أستطيع.. أضعها بجانبي في يأس، و أنظر للزنزانة من حولي..
على يميني بعض الشباب يصنعون الطعام للزنزانة.. أمامي بعض الشباب يتحدثون في أمر ما.. بجانبهم شاب يذاكر.. و آخر ينظر من (الثقب) الذي نرى به العالم الآخر لبضع دقائق في توتر و قلق..
هذا (الثقب) الذي رأيت منه "مصطفى عصام" قبل أن يرحل..
لم أكن أعرف شيئاً عنه منذ ثلاثة أعوام.. ثم رأيته أمامي مبتسماً كعادته.. كأنه يودعني للمرة الأخيرة قبل رحيلة.. رحمه الله.
تتزاحم أمامي الأرقام و المعادلات.. تزداد شيئاً فشيئاً حتى تحول بيني و بين الزنزانة من حولي..
رأسي تثقل.. أسندها على الحائط ورائي.. جفنيّ يثقلان.. يسقطان شيئاً فشيئاً..
"أيمن! أيمن!"
أسمع صوتا يناديني.. أشعر بجسدي يهتز.. أفتح عينيّ ببطء أرى وجهاً مبتسماً إبتسامة خبيثة!
يُكمل حين يرى عينيّ شبه مفتوحتين.. "إيه يابني إنت نمت؟! طب قوم نام على الفرشة!"
نظرت إليه متعجباً هذه الإبتسامة الخبيثة التي لم تذهب.. أيضحك على نومي جالساً؟ أم تراه فعل مقلباً ما؟! تجاهلت إبتسامته و أسئلتي و قلت له بصوت متحشرج " لا أنا هقوم دلوقت".. تركني و ذهب..
أنتظرت قليلا حتى يعود عقلي للعمل.. حتى ينتهي من ال "buffering".
قمت لأغسل وجهي.. " أيمن! تلعب بولة Estimation؟!" نظرت ناحية مصدر الصوت الآتي من خلفي.. وجدت "جِندي" جالساً و معه ثلاث شباب آخرين و بأيديهم كروت "كوتشينة".. أشرت برأسي نافياً و قلت "لاء مش قادر بس.. ممكن ألعب "Poker".. "طيب هنخلص البولة دي و نلعب.. هات معاك ال chips و إنت جاي".
ذهبت إلى الحمام، أمسكت بزجاجة مياه، في هذا السجن المياه منقطعة طوال الوقت! تأتي فقط خمس مرات كل يوم لدقائق، فنملأ الزجاجات و الجرادل و أي شيء يصلح لتخزين المياة.. صببت بعض المياه على يدي، المياه مثلجة! غسلت بها وجهي سريعاً قبل أن أتراجع.
خرجت من الحمام، نظرت ناحية جندي وجدتهم مازالوا يلعبون، فذهبت لصنع كوب نسكافيه.
سألت "عبد الرحمن عمرو" عن مكان الأكواب، ترك الكتاب الذي كان يقرأ فيه و نظر إلي، ضغط على منتصف نظارته بحركة لا إرادية و قال لي مشير إلى كيس معلق على الحائط و رائه "هتلقيه في الكيس ده"..
فذهبت ناحية الكيس و سألته إن كان يريد أن يشرب شيئاً، فأومأ برأسه نافياً و شكرني.
سمعت صوت "جِندي" قائلاً لي "هتعمل إيه؟" نظرت إليه و سألته "نسكافيه، تشرب؟"
"آه إعملي معاك"
"يابني هتبوظ مني كده، إنت مكنتش بتشرب شاي.. دلوقتي بتشرب نسكافيه و قهوة و بتلعب estimation و poker..؟! و لا إنت علشان خلصت مذاكرة بتنتقم يعني؟"
رد عليّ ضاحكاً "ياعم ما أنت السبب، أول كباية قهوة إنت اللي علمتهالي، و أول بولة Estimation إنت اللي علمتهالي"
رددت عليه مبرئاً نفسي "بس مش أنا اللي معلمك ال Poker.. دي إحنا إتعلمناها هنا مع بعض.. عامةً شوف كده حد عندك عايز يشرب حاجة؟"
سألهم و نفوا جميعاً ماعدا "علي عارف" طلب كوب شاي بدون سكر.
صنعت المشروبات و أتيت بال chips المصنوعة من أطباق فل و أقلام highlighter في طريقي لمحت جريدة الأخبار ملقى على الأرض و مكتوب في الصفحة الأولى بخط عريض
"قائمة العفو الثانية في خلال ٧٢ ساعة"
إبتسمت نصف إبتسامة فقد مضى إسبوعا (١٦٨ ساعات) و لم يحدث شيئاً!!
أكملت طريقي إلى الشباب في ركن الزنزانة.. أعطيت لكلٍ كوبه و جلست لنغلق دائرة من خمس أشخاص، و أنتظرت آخر game في البولة.
ألقيت نظرة سريعة على الزنزانة.. ٢٥ شاب غيري في هذه الزنزانة!
٨٨ زنازين طلبة في هذا السجن فقط.. غير من يؤدون إمتحانتهم في سجون أخرى.. غير من يوجد مشاكل في أوراقهم و لا يستطيعون أداء الإمتحانات، فظلوا قاعدين في "سجونهم".. صدمت عندما رأيت شبابًا من مواليد ١٩٩٨!
عامين و سنلتقي بمواليد ٢٠٠٠٠!!
أعلم أن هناك أطفالا قابعين في مؤسسة العقابية، لكن دائماً الرؤية غير السمع..
بدأنا game ال Poker.. "علي عارف" يوزع ال "chips" ثم خمس ورقات على الأرض و ورقتين لكل لاعب، سألني "جِندي" "إيه النوم ده كله؟!"..
نظرت إليه متعجباً "إيه أنا نمت كتير؟!"
"آه.. و كمان الشباب كانت قاعدة تطبل و تهيص.. الواد خالد مسك الحلة و إشتغل.. طبعاً كله ما بيصدق.. أنت محسيتش؟!"
"خالص!"
"خلصت مذاكرتك و لا لسة طيب؟"
"لا لسة فاضل لي 7 chapter و 13 مش فاهم منهم حاجة!"
"طب إيه مش هاتكمل؟!"
"دلوقت؟ لاء.. مخي فاصل شحن.. زي البتاع اللي ورا ده."
و أشرت بإبهامي خلفي على "الثقب" الذي نرى به العالم لبضع دقائق في توتر و قلق.. أبتسم جندي إليّ و قال "بس المفروض دي لعبتك.. الstatistics"
"Fold"
تم وضع ورقة جانباً.. إختلست نظرة سريعة إلى ورقي ثم إلى الورق الملقى على الأرض و قلت و أنا أرمي ب chip 500.. "يا عم لو المنهج يتشرحلي مرة واحدة بس هقفل الإمتحان.. كده كده الأسئلة بتيجي مباشرة مفيهاش لف و دوران.. و بعدين الورق لسة داخلي زيارة حسن أول إمبارح، بعد ما رجعت من زيارتين قبله.. و الإمتحان بكرة! و أنا مخي وقف عامةً.. الصبح هاراجع على اللي ذاكرته و بعديها هحاول أفهم أي حاجة من اللي ناقص."
"آه صح الصبح الدنيا بتكون هادية."..
"الكل in!"
قولت و أنا أدفع كل ال chips بثقة قبل أن أخسرها كلها!
نظر إليّ "جِندي" و قال لي ضاحكاً "يابني إحنا لو كنا بنلعب على فلوس، كان زمانك بعت شرابك!"
ضحكنا جميعاً..
أحيانًا تولد لحظات تنسيك كل همومك، كالنبات الذي يشق طريقه من بين الوحل و السماد، فيخرج وروداً و ثمارا.. نتمنى أن نمسك بهذه اللحظات و نستمتع بكل تفصيلة فيها.. لكن سرعان ما تذهب هذه اللحظات وسط قلة الشمس و عفونة المكان.. فتدبل.. و تموت!!"

محمود عبد الشكور ابو زيد (شوكان) – أحيا ميتًا

محمود عبد الشكور ابو زيد (شوكان) – أحيا ميتًا

اليأس قد توغل إلي كرات دمي الحمراء ووصل لكبدي والنوم أصبح عقلي يرفضه وجسدي أصبح يتصبب عرقا بإستمرار دون توقف .. فقدان للوعي لدقائق أمر أعتاده بشكل يومي.. جسدي النحيل الغارق في الأمراض أصبح لا يساعدني علي الإستمرار في تحمل مشقة الحبس بين أربع جدران لمدة عامين دون أي ذنب اقترفته سوي حملي لكاميرا أصور بها الأحداث بكل حيادية وموضوعية.. بالرغم من ذلك فأنا لا أخشي الموت وأنتظره بصدر رحب لأنه أهون علي مما أنا فيه داخل محبسي.

close

Subscribe to our newsletter