احمد سعد دومه سعد (احمد دومه) – أن تكونك فتبقى في السلاسل ينهش “الكركي” كبدك

احمد سعد دومه سعد (احمد دومه) – أن تكونك فتبقى في السلاسل ينهش “الكركي” كبدك

أن تكونك فتبقى في السلاسل ينهش "الكركي" كبدك، أو تكون مسخا غيرك فلا تكون ولو ظللت في قلب النور للأبد!
ليس المستقبل وحده على المحك، إنما الإيمان، الانتماء، والكينونة كلهم على الحافة، رهن قرار تتخذه لحظة ضعف أو هزيمة فتنجو مشوها غير قادر على مطالعة خريطة الوطن كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟!
فما بالك وأنت تسلمها للعتمة الدائمة؟
لا أظن المصيبة أنك مجرد جندي، أو قائد منهزم ولا أن المنتصر على الضفة الأخرى يفرض عليك شروطه (هل هناك ضفة أخرى أصلا؟)، المصيبة أن تصدمك حقيقة أن كل شيء قابل للمساومة، أنت وما تحمل من مشاعر قناعات وحتى علاقتك كمواطن بالوطن، مجرد رقم في قائمة شروط، وخياراتك منحصرة في انتقاء ميتة تليق بك: منتحرا متمردا، أو قتيلا مستسلما!
جيل كامل رهن وجوده بحلم لفرط مثاليته باغتهم دنوه لهذا الحد.
تتوالى الصدمات، أهونها ربما السجن والقتل، نهايتهما مريحة تحميك من عقدة الذنب، أما الذين راهنوا على سيوف الأهل والرفاق لتنصرهم (لا تقتل الأعداء لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا تقتلنا وتقتل الصغارا).
ليس هذا فحسب، بل اكتشفوا أصلا أنهم في عيون الكل هم العدو وفي هؤلاء تجلت المأساة!
-
هل يمكن لجيل كهذا أن يلتفت للاحتياطي الأجنبي ومعدل البطالة؟ كيف لمن ماتت أمه في المساء أن يبحث عن حال الطقس في الصحف حين يستيقظ؟
الجنود العائدون من الميدان مهزومين، ولو مؤقتا، لا وقت أمامهم للنقاش حول ما حدث، لقد وجدوا أنفسهم وهم في الطريق لمنازلهم يلملمون الجراح ويستوعبون الحادثة منتقلين لميدان أقسى.
يحاربون الآن ليثبتوا أنهم (كانوا هنا)، يصارعون على الذاكرة، يقاومون النسيان، يبحثون عبثا عن سلاح يثبت هويتهم، ووطنيتهم، وحتى وجودهم.
فالجراح والدماء والعمر والغياب والسجن لم تكن كلها دليلا كافيا على ما بدا!
وفوق هذا كله هم ملامين على شعورهم بالهزيمة، الخيبة، والخذلان ومتهمين بتصدير السواد وتكدير الصفو. أي عبث هذا؟
إذا كان الوطن ألا يحدث ذلك كله فأين نحن؟ وما هذا الذي نعشقه ويذبحنا بهذا التوحش؟ وما هو الوطن أصلا؟!

عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – اليوم السادس من أكتوبر عام 2013م

عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – اليوم السادس من أكتوبر عام 2013م

اليوم السادس من أكتوبر عام 2013م في معسكر السلام للأمن المركزى كنت أجلس متكوما فوق أبي و فوقى شخص غريب و حولنا 60 شخصا أخرون فى زنزانة ضيقة طولها خمسة أمتار فى عرض 4 أمتار، و حمام ضيق قذر فى الركن ،أحدق أمامى مذهولا فى مشهد لم أظن فى حياتى أنه يوجد خارج الأفلام ناهيك عن كونى أحد أبطاله أغلق عينى بقوة و أفتحها عسى أستيقظ من هذا الواقع الذى فاق أعتى الكوابيس ،علنى أجد نفسى نائما فى سريرى، فأتنفس الصعداء و أرجع إلى نومى.
لم أستيقظ فتحت عينى على نفس المنظر مرة أخرى ، ستون شخصا متكومون فوق بعضهم حرفيا ،تحتى شخص و فوقى شخص و عن يمينى و عن شمالى العشرات. أتنفس بصعوبة و أشعر بأبى فى حالة صدمة ، أشعر بالرعب. كنت لأول مرة فى حياتى أراه غير قادر على التصرف أو إيجاد حل أو مخرج ،قد يموت فى أى لحظة. أدركت مصدوما ،لا يمتلك دواء الضغط و السيولة معه الأن ،لم يكن ما حدث فى حسبانه. لم يكن فى حسبان أى أحد.
أغمضت عينى مرة أخرى حاولت بيأس لم أستيقظ مر عامان منذ هذه اللحظة ،فجر يوم السابع من أكتوبر، كان من المفترض أن أكون متوجها لأول يوم لى فى كلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة. فتح الباب و قذف بشوال داخل الزنزانة، ثم أغلق الباب بشدة حاولت تحريك لرقبتى ...
و نظرت فى الشوال عيش، و حلاوة لأول مرة منذ لحظة القبض علينا، بكيت و كأن الحلاوة أفاقتنى و جعلتنى أدرك حقيقة ما أنا فيه بكيت بقوة و أهتز جسدى شعرت بأبى يحتضننى سمعته يحكى لمن حولنا عن جامعتى و قصتنا و أنى متأثر لأن اليوم أول يوم لى بالجامعة الألمانية ، كنت مرتديا "hoodie" أسود كبير، غطيت رأسى كى لا أرى أحدا. أحسست بحركة أمامى و أجساد تتباعد و أحدهم يتأسف للناس و هو يمر.
شعرت بتربيت على كتفى رفعت رأسى و نظرت كان بنى العينين، أبيض و شعره كثيف مرتفع من الأمام، وذقنه على شكل "Douglas" .
- "أنت فى ال GUC ؟ سألنى بابتسامة
- "المفروض النهاردة أول يوم لىا فى هندسة" أجبت
- "طب يا عم احمد ربنا !
السجن أرحم من ال GUC مليون مرة!" رد ضاحكاً
ابتسمت ببطء و أنا أنظر إليه مستفهما.
-"اصل انا كنت فى ال GUC بس شلت الCS وحولت BUE انا فى هندسه برضه" قال بابتسامة.
نظرت باهتمام شعرت شعور من يكون فى بلد غريبه لا يعرف بها احد ،ثم يقابل بالصدفه احد بلدياته ويكلمه بلغته !
-" انا ايمن على" مد يده مصافحا
- "عبد الرحمن الجندى" مدت يدى وصافحته مبتسما
لم اعلم لحظتها انى كنت اصافح من سيكون اقرب شخص لى واكثر من اخى فى هذه المحنه خلال الاعوام المقبله فى حياتنا لحظات مهمه نقابل فيها اشخاصا او نتخذ قرارات او نمر بمواقف ، ولا نعلم لحظتها انها ستغير حياتنا للابد .
- "ماتزعلش يا عم " اول اسبوع كده كده lecture week محدش بيروحه ، واساسا مش هنكمل اسبوع اكيد ان شاء الله ، كلها يومين ونطلع" قال ايمن مطمئنا تحولت هذه الى نكتتنا السنويه ، فبعد عام كامل ، فى سجن طره ، اول يوم فى العام الدراسى ، اذهب اليه ضاحكا واقول :
-" ياسطى النهارده اول يوم فى الدراسه ! "
-"يا عم كده كده اول اسبوع lecture week متخفش !" يقول ونضحك كلانا.
يمر عام اخر ونجلس فى التريض بعد انتهاء العيد نتحدث . اصمت فجأه ثم انظر اليه .
- " بقولك ايه ؟"
-" ايه ؟" يسأل
-" النهارده اول يوم جامعه .تفتكر هلحق ال lecture week السنادى؟".
ننفجر ضاحكين حنى نتعب لا خيار امامنا مره فى المعسكر ، مره فى طره ، مره في وادى النطرون ، مر 4 اعوان لففت فيهما على زنازين وسجون عديده ،سجنت فى سنترال رمسيس 7 ساعات ، فى قسم الازبكيه ليله ، فى معسكر السلام تسعه ايام ، فى سجن المرج عاما ، فى استقبال طره اربعه شهور ، فى ليمان طره شهرين ، فى ملحق وادى النطرون سته اشهر ...
مابين امتحانات وجلسات ومحاكمات ، اعتدت الكلابشات والترحيلات وحزم الحقائب فى اى لحظه ، نسيت الاستقرار ، الفت الخوف حتى لم اعد اشعر به .
فى يوم السادس من اكتوبر عام 2013 م ، اغمضت عينى بقوه وفتحتها ، لم استيقظ.
فى يوم السادس من اكتوبر عام 2015 م ، لم ازل اغمض عينى من آن لاخر بقوه وافتحها ، تباعدت الفترات بين المحاولات وقل الامل ان استيقظ .
مر 4 اعوام ، ولم ازل احاول ولكن حتى هذه اللحظه ،لم استيقظ ."
مر أربعه أعوام وبقى 11 عام لأنه حكم علي ب 15 عام !

سيد محمد احمد (سيد منسي) – انا موجود في السجن ليه؟

سيد محمد احمد (سيد منسي) – انا موجود في السجن ليه؟

انا موجود في السجن ليه ؟ هل علشان كان نفسي في تعليم كويس اتعلمه ؟ ولا علشان كان نفسي في عداله اجتماعيه بحكم اننا فقراء ونفسنا نعيش زي باقي الناس ؟ ولا علشان كنت بساعد اصحابي والناس اللي في السجن علشان هما مظاليم وكان لازم نبقي سندهم ؟ يمكن علشان شاركت في ثورة يناير وامنت بيها ؟ ولا علشان أنا ابويا مش وزير ولا ظابط وابويا كان راجل فقير ؟ انا بصراحه مش عارف حاجه غير ان انا بقالي اكتر من 250 يوم محبوس علي ذمة قضية محصلتش وانضمامي لجماعة الاخوان اللي انا كنت ضدها من اول يوم . لحد امتي هفضل في السجن وانا عمري لسه 20 سنه لحد امتي روحنا هتفضل متشوها لحد امتي هتفضلوا تضيعوا في مستقبلي ودمروني .

كريم حسام كرم – أخيرًا ولله الحمد جائت اللحظة

كريم حسام كرم – أخيرًا ولله الحمد جائت اللحظة

و اخيرا و لله الحمد جائت اللحظة التي اصبح فيها والدي بجانبي ... ولكن !!! ...
ليس بجانبي في يوم زفافي .. ولا في يوم تخرجي من الجامعة ...
بل اصبح معي بنفس السجن بعد ان كان بعيدا عني اكثر من عام ....
عام و اكثر لا اعرف شئ عن ابي سوي ان امي تخبرني انه بخييير ..
اكثر من 8 شهور حبس انفرادي و 6 شهور اخرين في اوسخ اقسام مصر ...
و السبب ... لا أدري ..
اللهم لك الحمد علي كل حاال ..
باذن الله فرج ربنا قريب جدااا ..

محمد رمضان بيبرس (محمد رمضان) – خبر عاجل

محمد رمضان بيبرس (محمد رمضان) – خبر عاجل

(خبر عاجل)
(أصدرت النيابة العامة بياناً موحداً منذ قليل على مستوى الجمهورية تقول فيه أنها قد أصدرت قراراً بأخلاء سبيل كل الفقراء المحبوسين أستناداً إلى أبسط قواعد العدالة ، كما جاء بالبيان بأنه وقبل معاقبة الفقير على جريمة أرتكبها وجب إقامة الدعوة الجنائية ضد كل من نهب قوته وسرق حياته ودمر مستقبله ليشيد القصور والمنتجعات والأبراج ويثرى من حساباته البنكية هو وأسرته على حساب الملايين من البشر ، كما جاء بالبيان أن النيابة العامة أصدرت قراراً بأخلاء سبيل كل المعتقلين السياسيين وأصحاب الرأىوالمدافعين عن الحقوق والحريات أيمانً منها بأنهم لم يرتكبوا أى جريمة وأن خرق القوانين الجائرة يعد إلتزام بكافة قوانين العدل والعدالة ، كما أمرت النيابة العامة بفتح تحقيق مع مسئولي السلطة التنفيذية لأرتكابهم جرائم ضد الإنسانية .
اللى فات دا مش خبر حقيقى دا الحلم اللى أنا حلمته وأنا فى حجز المحكمة منتظر قرار المحكمة ووقتها صحانى الحرس وقالى "يالا يا أستاذ محمد القرار حبس 45 يوم أنت واللى معاك ").

ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – كل عام و انتم بخير

ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – كل عام و انتم بخير

" كل عام و انتم بخير "
" عيد سعيد "
هكذا تربيت صغيرا ...
العيد فرحه و ابتسامه ... العيد عطاء و رحمه .
لكنني فوجئت منذ أربعة أعوام أن العيد مذله و إهانه في بعض الأماكن !
ففي عام 2013 أول يوم لنا في " سجن المرج " كان يوم عرفه ، كانت أول " حفلة إستقبال " نراها في حياتنا ...
خلعنا ملابسنا و أوقفونا " بالبوكسرات " ....
ضُرب من ضُرب ... أُخذ متاعنا ... ألقوا بنا في في الزنزانة ثم جاءوا يعيدون علينا في اليوم التالي ...
في أول يوم عيد لنا جاءوا يسبوننا و يصيحون و يفتشون الزنزانة ... ألم يأخذوا متعنا كله ؟!
علام يبحثون ؟!
فقط إهانتنا ... لا يبحثون عن شئ آخر .
و أغلقت الأبواب باقي أيام العيد ... و في كل يوم يوافق أجازه رسمية لا يُفتح علينا الباب سوى لإلقاء سجين داخل الزنزانة ... لا نري الشمس و لا نشم هواء نقي حتي تنتهي الأجازه ... فلا تريض و لا زيارات لنا .
القائمون علي السجن يٌؤجزون و نحن المَساجين لا قيمة لنا .
مضي عيد تلو الآخر في سجون مختلفة و قصص مختلفة ، حتي جاء هذا اليوم ، يوم الوقفة في عام 2017 تاسع يوم وقفة لي في السجن ، كان هناك زيارة إستثنائية و باقي أيام العيد كالعاده أجازه لهم .
إرتديت ملابس الزيارة و معها إرتديت الوجه المبتسم ال " mask "... المؤلم الذي أرتديه كل زيارة ... و خرجت ... رأيت رئيس المخبرين " البلوكامين " يزعق لأحد المسجونين و يدفعه و يهدده بأنه بإمكانه أن يلقيه في التأديب و يلغي له الزيارة .
كان صوته العالي يزلزل روحي ، لا خوفاً بل ألماً ....
أهذه " كل عام و أنتم بخير ؟ "
أم أننا مساجين لا قيمة لنا ؟!
أظنها الثانية !
جاء دوري في التفتيش و تكرر المشهد الذي كنت أشاهده منذ دقائق ، لكن هذه المرة معي ،
لم يدفعني لكن صوته كان عالي و رزاز يخرج من فمه مقزز ...
‏صُدمت من الموقف ، فأنا عادةً أَتجنبهم ... عندما انتهي الموقف ، وفعلت ما يريدون ... وقفنا " ثلاثات " وكنت واقف في آخر صف مصدومًا ... تائهًا ... كطفل أدرك أنه تائه فصُدم ثم بكي !
عادةً أمسك أعصابي حتي أدخل الزنزانة فأبكي وحدي ... لكني أصبحت ضعيفًا ، هشًا كسجارة احترقت وتحولت إلي رماد ... لا قيمة له ولا فائدة ...
سقط ال " mask " مني ... وزرت بدونه ، فتزاحمت علي نظرات الشفقة ... أكرهها ، ورأيت من زملائي نظرات اللَّوم ... إعتذرت إليهم بصمت وحاولت أن أتمالك نفسي ، حاولت أن أكون رجلا لكن بركان دموعي كان أقوي
تذكري " للبلوكامين " وهو يقول بصوت عالِِ " مش عايز تزور متزورش وعندك يا أخويا المحاميين وحقوق الإنسان والنيابة اشتكيلهم"
فأتذكر أن كل هذه الخيارات إنما هي لتحسين أوضاع السجن لا للخروج منه ! ، فأبكي أكثر .
لا أريد أن أري أمي " تُعيّد " مرة أخري في السجن ... أُحاول مرة اخري أن أتمالك أعصابي وحاول أخي أن يساعدني فيخبرني بنجاحي فأتذكر أن ما زال هناك ثلاثة أعوام في كلية لا أحبها ... فأبكي .
أعتذر إليكِ يا أمي
اعتذر إليك يا أخي
أعتذر لكل من زار معي في هذا اليوم ورأي ضعفي .
أعتذر إليكم .
فهذه دموعي لكم .
" وكل عام وأنتم بخير . "
أيمن علي موسي

عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – فى خلفية سريرى الصغير بالطابق الثالث من الأَسِرَّة، نافذة صغيرة

عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – فى خلفية سريرى الصغير بالطابق الثالث من الأَسِرَّة، نافذة صغيرة

فى خلفية سريرى الصغير بالطابق الثالث من الأَسِرَّة، نافذة صغيرة.
نافذتى، رغم صغرها، هى بمثابة المعجزة. فمن نافذتى أرى السماء.
أسند رأسى على شبكها الحديدى القاسى، محتضناً وسادةً صغيرةً كوَّنتُها من أغطيتى. شبكها الحديدى يحمل شيئاً من البرودة فى قلب الحر القاتل. أضغط جبهتى بقوة. أشعر بالشبك ينغرس فى جلدى. سيترك علامة. أفكر بكسل. لا أهتم.
خلف شبك نافذتى الحديدى، جدار آخر من القضبان على بعد نصف قدم، و بعدها بقليل جدار آخر من القضبان. ثم يرتفع بعد ذلك سور من الأسلاك الشائكة مميتة المنظر، إذا مددت بصرك خلفه بحوالى مائة متر، ترى سور السجن المهيب منتصباً.
شبك حديدى، فقضبان، فقضبان، يليها سلك شائك، ثم سور.
و تطفو فى جلالٍ خلف ذلك كله، كأنها خلفية أو قماش تلك اللوحة البديعة من الخطوط و الأعمدة و الدوائر المعدنية المتداخلة، السماء.
مظلمة، كما أحببتها دوماً. أراقبها، كما راقبتها عشرات المرات لليالٍ طويلة، مستلقياً على ظهرى فى ملعب كرة السلة. تشعرنى للحظات بهدوءٍ غريب وارتباطٍ بذلك الشخص الذى كُنتُه منذ أربع سنين، مليئاً بالأحلام و البراءة الساذجة. لم ينكشف بعد على قبح العالم و أساه. تذكرنى أنى كنت هناك يوماً ما. حدث ذلك يوماً ما. ففى النهاية، هى الثابت الوحيد الذى ظل كما هو فى هذا المشهد الذى تغير فيه كل شئ، و كل شخص.
يعود الضجيج إلى رأسى، يطنّ ملاشياً الهدوء اللحظى. أحييه كصديق قديم، أحتضنه، أتركه يتربع فى جمجمتى، و يشكو.
أسمع فى صبر. ماذا بعد؟ لستَ فى برنامج العفو الرئاسى. لن تخرج. سيخرجون كلهم، و ستبقى أنت.
لماذا؟ لا أدرى. لا أسباب. لم تصبك القرعة ربما.
نجحت هذا العام بتقدير جيد؟ شئ جميل. لكن هل ستعين معيداً بتقدير جيد؟ هل ستكون من أوائل الدفعة بتقدير جيد؟ هل يمنحون منحاً للدراسات العليا بالخارج لتقدير جيد؟ هل ستحافظ على تقدير جيد من الأساس؟ قتلتَ نفسك هذا العام و لهثت الثرى لتصل لهذا التقدير المتواضع، فهل تستطيع أن تكمل لعامٍ رابع على هذا المنوال؟ و هل تريد أن تكمل أساساً؟ دفعتك الأصلية ستتخرج هذا العام و أنت لم ترها بعد. كل عام دراسى تنهيه فى السجن هو عام أقل ستقضيه فى الجامعة، فهل ستنهيها بدون أن تراها؟ و هل سيكتب لك أن تراها أصلاً حتى لو لم تنهها؟
أنت على مشارف الثانية و العشرين من عمرك. الثانية و العشرين! هل تستوعب؟ هل تفهم؟
مرت أربعة أعوامٍ كاملةٌ مكتملة. لم تعد فى السابعة عشر. لم تعد مراهقاً. أنت الآن ناضج. راشد. أقرانك الآن يعملون. يتزوجون. يخوضون الحياة. و أنت لم تر شيئاً منها بعد المدرسة.
كل من كنتَ تعرفهم و تحبهم بالخارج اختفوا. كبروا، تحولوا، تغيروا، نسوك، و اختفوا.
كل من كنتَ تعرفهم و تحبهم بالسجن اختفوا. رحلوا، ذهبوا لبيوتهم، انشغلوا، نسوك، و اختفوا.
و أنت الآن وحيد.
أضغط رأسى على الحديد أكثر لعل الألم يسكته. سمعت ما يكفى. ألا يكفينى همى لأسمع همك؟
يضحك ساخراً ضحكة خالية من الفكاهة. همى هو همك يا أحمق. ما أنا إلا أنت.
أحدق فى السماء و لا أرى. أحاول التركيز فيها وراء الخطوط المتداخلة. يلمع شئٌ من بعيد. لا يمكن أن تكون نجمة. السماء هنا خالية من النجوم لسبب أجهله. لا يوجد بها نجمة يتيمة حتى.
أركز أكثر.
طائرة.
أبتسم ببطء. ربما تحمل الطائرة أملاً أكثر من النجوم لى الآن.
أدندن بصوت خفيض:
"Can we pretend that airplanes in the night sky are like shooting stars?
I could really make a wish right now" أحاول سماع كلمات الأغنية بصوت Hailee Williams فى رأسى. أهز رأسى ببطء مع اللحن المتخيَّل.
يظن بعد أفراد الزنزانة أنى بدأت أفقد عقلى ربما. ربما هم محقون.
يقول على عزت بيجوفيتش أن الجنون فى الشباب هو شرط الحكمة فى الكبر. يرى أننا بدونه لن نستطيع أن نفهم العالم.
لكن، هل كنت حقاً أريد أن أفهم العالم؟ هل قيمة المعرفة تستحق ألم الفهم؟
لا أدرى.
لا أدرى.
-عبد الرحمن الجندي