احمد الخطيب – قرأت ذات مرة عبارة

احمد الخطيب – قرأت ذات مرة عبارة

قرأت ذات مرة عبارة تقول: انتقامنا الوحيد أن نروي ما حدث. ولسخرية القدر كانت العبارة لمعتقل مثلي، معذب بسجنه، لذلك سأخوض حربي الأخيرة كي أعلن أمام الحياة أنني لم أترك شيئًا إلا وفعلته، حتى وأنا على وشك الموت، كنت أقاتل.

أعرفكم بنفسي، اسمي أحمد الخطيب، فقط اثنين وعشرين عامًا من الحياة رأيت فيها ما يفوق هول أعماركم، لن أصف نفسي بالحسن، لن أطيل الأمر أكثر في الحديث عن أحلامي أو مستقبل انتظرته، سأكفيكم وأكفي نفسي العديد من الخيبات والألم.

سجنت ظلمًا لسبب لا أعلمه، تم إلقائي في حجرة متسخة في سجن يقهرني، حجرة لا تتجاوز العشرة أمتار، أصبحت فجأة مكانًا للنوم ولإعداد المفترض أن يكون طعامًا، وجزءًا آخر لقضاء الحاجة، على مرمى أنظار الجميع. لا مكان هنا للتأفف، لا مكان للشكوى ولا قول تبًا ما هذه القذارة. لا تسأل لماذا؟ ولا تطلب مكانا يتسع قليلًا عن تلك الحجرة، ولن أقول لتخرج من السجن.

جدران الزنزانة الأربعة، في البداية تصبح عدوك الأول وبعد ذلك الصديق، حسبت عليها أيام عمري والذكرى، حفرت فيها أسماء من أحبهم وحفرت وجوههم في قلبي حتى لا أنسى، سجلت عدد الأيام واحدًا واحدًا، كنت أعلم أنني يجب أن أخرج، كنت لا أشك في ذلك، فأنا لم أفعل أي شيء.

تمضي الأيام، وشغلت الأرقام كل الجدران ونفدت المساحة ولم تنتهِ أيام سجني بعد. حريتي! قد نسيتها... أتساءل كيف كانت؟

مرة أخرى ألعن الجدران الأربعة، تواصل التضييق عليّ باستمرار وسحق روحي. أقسم لكم أنني حاربت حتى لا أنهزم، في كل ليلة كنت أجمع حطام روحي وجسدي من أثر القهر والظلم، وأضمد جراحي لأعلن للصباح القادم أنني سأستمر. لأنني يجب أن أخرج.

لم أخرج، أخشى كل شيء يخبرني أنني لن أخرج أيضًا. الزنزانة، وجوه أصدقائي المظلمة فيها، مرضي. آه، مرضي شأن آخر.

تخيل نفسك للحظة واحدة في مكان قذر لا يصلح للحياة، تصبّر نفسك كل يوم بأنك قد تخرج، وإذا بك تضعف، تشعر بالوهن والفتور، لا يستجيب أحد لطلبك بأن يزورك طبيب، وحينما يحدث يخبرونك أنك قد أصبت بالمرض اللعين، سرطان يأكل جسدك جزءًا جزءًا، وكأنه لم يكف أن يسلب السجن روحي.

حسبت أن الأمور ستنتهي عند هذا الحد. سيفتك بي ذلك الداء اللعين وأموت، لكن أصطدم بأنني أصبت بمرض أشد سوءًا وقسوة. كأن الأمر ليس سوى منافسة حول أي الأشياء تقتلك بألم أكثر، بجهد أقل.

من يأس ليأس، من ظلم لظلمة، ولا أدري كيف أخرج من هنا. لم يكن بوسعي تحطيم جدران سجني والفرار، والآن لم يعد بوسعي أن أحطم الألم والحزن من حول نفسي. ربما تكون تلك كلماتي الأخيرة، يخبرني كل شيء حولي أنني سأموت في كل لحظة، وحيدًا منسيًا، لذا قررت أن أحارب جولة أخرى وأكتب.

أخبروا أمي على وجه الخصوص أن السجن وإن أبلى جسدي، فإن وجهها المحفور في قلبي وذاكرتي لن يبلى ولا يفنى. أوصلوا السلام إلى من أحب، فقد سلبوا عيني رفاهية رؤيتهم. وادعوا لأجلي، وأدعو لكم.

ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – العقبية//حفل إستقبال

ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – العقبية//حفل إستقبال

أين الإنسان؟!
فقده منذ دخولي هنا..
أستمع لما حولي باحثاً عنه..أفقده أكثر و أكثر!
أفقده في قصة تحكى إليّ من شاب بلغ الثامنة عشر عاما منذ بضع شهور..فتم ترحيله من مؤسسة العقبية إلى هنا..إلى السجن العمومي كي يكمل 'عقوبته'.
كان طفلاً عندما تم القبض عليه..كان طفلا قبل أن يقتل فيه شيء..قبل أن يقتل الإنسان بداخله!!
"أول كلمة كلمة قرأتها على باب العقبية كانت ((سيب كرامتك هنا))"..قلل لي هذا الشاب، ثم أكمل "ساعتها توقعت أسوأ الإحتمالات إللي ممكن تحصل..عارف؟! ياريت كان حصل إللي توقعته..للأسف حصل أسوأ بكتير قوي!"
كادت روحي أن تصرخ في وجهه..
أستمعت إليه و أنا أتألم..إستمعت إليه حتى إستنفذت طاقتي..تركته و ذهبت إلى مكان نومي في ركن الزنزانة على الأرض..تركته و لكنه لم يتركني! ظل صوته في عقلي و كأني مسست بجان!
أسمع صوته يقول "أول لما دخلت أنت عارف طبعاً الدخلة، ضرب و إهانة..بعد كده وقفوني و قالوا لي إخلع، فقلعت و وقفت بالبكسر..لقيتهم نزلوا عليا ضرب و هما بيقولوا لي إخلع كل حاجة..فقلعت.." ثم نظر بعيداً و أكمل "و قلعت كل حاجة..زي يوم ما إتولدت..و وقفت قدام المخبرين و مساجين من غير حاجة خالص..و إنت عارف إيه اللي بيطلب بعد كده"..
كنت أعلم ماذا يطلب في هذه الحالة..يطلب من المسجون-الإراء كما يطلق على السجينات والسجناء الجدد- أن يتبرز أمام المخبرين كي يطمئنوا أن بطنه خالية من الممنوعات كما يدعون..
أعلم أن هناك مساجين من من يأتون في قضاية جنائية، يدخلون المخدرات في هذه المنطقة داخل فتحة الشرج..لكن ألا يمكن حفظ كرامة الإنسان؟ ألا يمكن إستخدام إشاعة لنفس الغرض؟! ألا يمكن تربية من يفعلون هذه الفعلة بطريقة إنسانية؟! ألا يمكن منحهم الإنسانية بدل من سلبها منهم؟!
"سيب كرامتك هنا" تتردد في أذنيّ..
أعتصر عينيّ بقوة كي تتوقف هذه الأصوات..لكنها تعلوا أكثر و أكثر! أسمعه يكمل.."أول ما دخلت العنبر، لقيت حفلة إستقبال تانية..المرة دي من قيادات العنبر..إللي هما مساجين زيهم زيك بس بقالهم كتير في المؤسسة فأخدوا و ضعهم..نزلوا عليا ضرب و إهانة تاني..بس المرة دي مفيش قلع."
آراه في مخيلتي و هو يضحك ضحكة سخرية..
أتقبل على الفرشة و أنا أحاول طرده من عقلي..لا أستطيع!
يكمل صوته " هناك لك قعدة معينة لازم تقعدها طول الوقت..لازم تقعد كده"..
ثم أراني هذه الجلسة العجيبة، جلس متربعاً و وضع سبابتيه على ركبتيه و نظر إلى السقف أو إلى الحائط ورائه، كان ظهره متقوس بمبالغة..قلت لنفسي و هو يريني هذا الوضع "هما بيعلموهم العته؟ و لا بيعلموهم الإنضبات؟!!" أكمل شرحا " لازم راسك تلمس ظهرك..و لو لمح فرق بينهم يضربك بركبته في ظهرك علشان يلمسوا بعض..المشكلة أنه بيضرب بغل، و بتحسه مستمتع و هو بيعمل كده، كأنه بيقبض مرتب..مع إنه مسجون زيه زيك! و في يوم من الأيام كان مكانك! بس بيقول لنفسه'إظلم علشان ماتتظلمش' أو 'لو ماعملتش كده هايتعمل فيك كده' و مبررات ملهاش لزمة"..
أين الإنسان، أصرخ بداخلي..أين الإنسانية؟!!
"عارف بيصحيك إزاي؟ بيجي يشد من عليك الغطا إللي إنت متغطي بيه، هناك صيف شتا لازم تتغطا، فانت تقوم مفزوع يروح رامي الغطا في وشك."
ظلت مقاطع من ما قال لي تتردد في أذنيّ.."يعني مثلاً الحمام هناك من غير ستارة..القيادة بس هما اللي مسموح لهم يقفلوا الستارة على نفسهم..لكن الباقي ممنوع!"
"في حاجات مش هاقدر أحكيها..أنا بتخنق من السيرة دي أصلاً."
إلى ما يصنعون هؤلاء الأطفال؟! إلى ماذا يتحولون؟! أسئلة كثيرة تدور في ذهني لا إجابة لها!
((السجن إصلاح و تهذيب)) هذا ما تعلمناه..لكن الواقع يقول عكس ذلك..
الواقع يقول أن من يدخل السجن مجرماً يزداد إجراماً..و من يدخله خطء يتحول وحشاً!!
أحاول النوم كي يتوقف عقلي عن التفكير..كالعادة لا أستطيع..أحاول طرد هذه الأشباح لكنها لا تتركني..أحاول العيش معها لكني لا أستطيع!

عبد الرحمن جابر – رسالة من وراء القضبان

عبد الرحمن جابر – رسالة من وراء القضبان

رسالة من وراء القضبان
(إلي زملائي طلبة وطالبات كلية الهندسة جامعو الاسكندرية وأخص بالذكر دفعتي الحالىة دفعة 21وأحب أن أرسل لكم جميعا السلام والتحية العظيمة لمواقفكم الرجولية تجاهي واتجاه كل شخص مثلي.
في البداية أحب أعرفكم أنه تم الحكم عليا بالسجن المشدد 3سنوات وزيهم كمان 3سنين "مراقبة"يعني المفروض بعد ما أطلع من السجن أراقب في أقسام الشرطة مع تجار المخدرات والبلطجية والمسجلين خطر وبالتالي لن أتمكن من ذهابي للكلية أوالمذاكرة بانتظام أو استكمال دراستي من الأساس وكل ده بسبب أخطاء لاذنب لي فيها وبسبب حكم قضائى ظلمنى وظلم من معي. وعلفكرة كل ده ظلم وقع عليا خلاص يعني عارف هيخلص امتا، المشكلة بقي في الظلم اللي لحد دلوقتي واقع عليا من إدارة الكلية في إنها لحد دلوقتي مش عايزة تنجحني أو حتا علي الأقل إنها تمكني من أداء الأمتحانات العملية اللي متوقف عليهافقط.
في منتصف الحديث عايز أسأل حضاراتكم سؤال ؟! عارفين الحوار الشهير اللي دار بين أحد الطلبة المصريين وبين زميله الطالب الأجنبي عندما سأله الطالب الأجنبي وقال له ماهي أحلامك المستقبلية؟! فأجابه زميله المصري بأنها تتلخص في وظيفةجيدة تتناسب مع مؤهله وشقة ليتمكن فيها من الزواج وأخيرا سيارة يذهب بها إلي عمله وقضاء مصالحه، رد عليه زميله الأجنبي مندهشا أنا لا أسألك عن حقوقك ولكن أسألك عن أحلامك !! أنابقي نفسي في حقوقي فقط، كان نفسي أكون معاكم دلوقتي بستعد للأمتحانات الmid-term ومنتظم في الكلية وبتفسح مع صحابي وبنام مع أبويا وأمي وإخواتي في البيت وحاجات تانية كتير أوووووي .... في النهاية أحب أقولكم إن مش أنا لوحدي بعيش في الظروف دي فيه طلبة غيرى كتير في نفس ظروفي!! وأحب إني أوجه شكري للمرة التانية علي تأجيل مادة الرياضيات في امتحانات الترم الأول لنصف الجدول وأعرفكم إني مكنتش هلحقها أو أعرف أمتحنها لو كانت أول مادة في الجدول..... شكرا ليكم وأسف لو طولت عليكم حبتين وأتمني منكم إنكم تدعولنا...)
أخوكم/عبدالرحمن جابر
طالب بالفرقة الأعداديةللسنة الثالثة
#اوعوا_تنسونا
#دفعة_21_

اسامه البشبيشي – شاء من شاء وأبى من أبى

اسامه البشبيشي – شاء من شاء وأبى من أبى

شاء من شاء وأبى من أبى ستنكسر القيود وتنهار القضبان أمام عزيمة الصحفيين ، وتخور قوى أذناب العصا والبيادة أمام الجيل الجديد من شباب الصحفيين المغاوير الذي تربى على ثورة 25 يناير الذي يعتقد اعتقادا جازما انه “لا معنى لحياة ليست محفوفة بالخطر والشدة” ويندفع بقوة نحو الميادين ومواقع الاحداث يرصد ويوثق وينقل الحقيقة مجردة الا من عقيدة الانتصار للضعيف دون ادنى رهبة او هيبه من بطش عبيد التجهيل والتدليس.
#عاشت_عزيمة_الصحفيين
#الحرية_لسبيع_والقباني
#الحرية_للعدسة_والقلم
#الحرية_لاسامة_البشبيشي
#الصحافة_ليست_جريمة

احمد امين الغزالي (احمد الغزالي) – أنا أحمد أمين غزالي

احمد امين الغزالي (احمد الغزالي) – أنا أحمد أمين غزالي

أنا أحمد أمين غزالي، أرسل اليكم هذه الرسالة ولعلها الأخيرة، فأنا أموت بالبطىء، وأعاني من ضعف شديد ولا أستطيع الوقوف والكلام، ولا الحركة، ويتم ضربي وسحلي وكلبشتي في السرير لفك الإضراب، وتعليق المحاليل والتغذية بالإكراه وهذا محرم دولياً؟ وتمنع إدارة السجن الزيارة عني وذهابي للمستشفى، وتتعمد موتي البطىء.
وأنا أطالب بأقل حقوق في الحياة، رغم حكم الإعدام، وإرتداء البدلة الحمراء، وكل ما أملكه هو الإضراب، والذي تكفله كل القوانين، ولا أطلب منكم سوى الوقوف معي لأحيا حياة آدمية وإن كنت عندكم ميت.

محمد مدني – يقولون أن سجن برج العرب

محمد مدني – يقولون أن سجن برج العرب

يقولون أن سجن برج العرب به مستشفى وهذا من الناحية الظاهرية حقيقي لكن فى واقع الأمر هى أمر شكلي فقط، تعرضت لتجربة شخصية فيها مع طبيب العيون بعد أصابتي بضعف فى إحدى العينين وتكرار الشكوى من وجود علامة سوداء أمام عينى، بالكاد استطعت أن أذهب إلى المستشفى بعد شهر ونص من الطلب الملح و المفاجأة التي تعرضت لها أننى وجدت نفسي أمام شخص يسأل دون كشف وكانت إجابته لي "المرض ده اسمه الذبابة الطائرة ومابيروحش ومش هيروح وعندنا منه كتير وماتجييش المستشفى تاني"صدمة العبارة افقدتني القدرة على التحدث معه فهى عبارة محفوظة يرددها كثيرا.
لم أتحدث عن طبيب العظام الذى لا نشاهده ولن أتحدث عن طبيب الأنف و الأذن الذى دخل شهره السادس دون أن نعرف عنه شيئا ولا طبيب الأسنان الذى لا يفعل إلا خلع الأضراس دون تعقيم الأجهزة ويضرب المرضى ولا عن طبيب العلاج الطبيعى الذى لا علاج عنده إلا شرب الماء ولا مدير المستشفى الذى طلب من أحد المرضى 50 جنيه حتى تجرى له تحاليل دم، ولا طبيب الجلدية الذى لا يظهر إطلاقا وإنما يظهر نوعين من المراهم مكانه أحدهما مضاد للحساسية والآخر مضاد للإلتهاب، ويتم صرف العلاج بنظرية "بنظرية بلاها نادية خد سوسو".
حالة الوفاة الأخيرة داخل السجن كشفت وسلطت الضوء فقط على الوضع الصحى داخل السجن بدءا من استمرار حبسنا داخل الغرف لمدة 22 ساعة وخروج التهوية ساعتين فقط بالمخالفة الصريحة للوائح السجن ومواثيق حقوق الإنسان بل وأبسط قواعد الإنسانية مرورا قبله التعرض للشمس وتسول العلاج من المستشفى ورفض دخول الأدوية من الخارج وإنتهاءا برفض إجراء فحص طبى أو إجراء عمليات جراحية فى الخارج و تكدس المعتقلين فى الغرف.
إنها أبسط مطالب الحياة الإنسانية التى تعين على الحياة، ولذلك كان من الطبيعى أن تنفجر الأوضاع ولا أرى أنها ستعود إلى الهدوء مرة أخرى قبل أن نشعر بإنسانيتنا، الخيارات مفتوحة أمامنا سواء بالمطالبة أو المواجهة، وإن كانت هناك تعليمات ضمنية تقتلنا داخل السجن فإننا لن نقف مكتوفى الأيدى ولا أكون مبالغا إن قلت أننا نستعد لأكبر إضراب شامل فى الفترة القادمة، وسنخوض معركة الأمعاء الخاوية، فإما أن نعيش بكرامة أو نموت بمواجهة، وإن كان القتل مصيرنا فسنتقبله بنفس راضية ولكن بكرامتنا.
محمد مدنى _ مراسل صحفى

علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد (علاء عبد الفتاح) – صورة للناشط خارج محبسه

علاء احمد سيف الاسلام عبد الفتاح حمد (علاء عبد الفتاح) – صورة للناشط خارج محبسه

تفتَّح وعينا على الانتفاضة الثانية، وخطونا أولى خطواتنا تزامنًا مع تساقط القنابل على بغداد. نظرنا حولنا فوجدنا أشقاءً عرب يصرخون: «‬ليس على حساب كرامتنا»‬، وحلفاءً في الشمال يهتفون: «‬ليس باسمنا»‬، ورفاقًا في الجنوب ينشدون: «‬عالم بديل ممكن». أدركنا أن العالم الذي ورثناه إلى زوال، كما أدركنا أننا لسنا وحدنا.أيقنّا محورية تكنولوجيا المعلومات في صياغة العالم الجديد وأدركنا انكشافنا أمام الاحتكارات العالمية، لذا تبنينا البرمجيات الحرة مفتوحة المصدر كضرورة لتطوير المجتمع وتحقيق استقلاليته، وكأداة رئيسية في تحديث الاقتصاد وإنهاء تبعيته. بدأنا بالدعوة، درنا على كل الجامعات، طلبة تحاضر أساتذة. نظمنا مؤتمرات ثم تدريبات. استهدفنا كل الفئات،‬ من مدرسي مادة الحاسب الآلي بالمدارس الإعدادية، لطلبة الهندسة، للقضاة والصحفيين. ربطنا بين نقدنا للآثار السلبية لمنظومة الملكية الفكرية على البرمجيات وآثارها على صناعة الأدوية، فوجدنا أنفسنا منخرطين في قضايا اجتماعية كالحق في الصحة. ربطنا بين نقدنا للشركات الاحتكارية ونقد منظومة العولمة على أسس الليبرالية الجديدة، فوجدنا نفسنا في تقاطع مع طيف واسع من النشطاء حول العالم.
سعينا للفهم.‬ لم نكتف ببروشورات الشركات وبيانات المنظمات الدولية وتصريحات المسؤولين.‬ قرأنا كل المتاح، وشاركنا في ترجمة بعض منه، وتجادلنا حوله. ثم انطلقنا في كل اتجاه:‬ مبادرات في السوق، ومبادرات في المجتمع المدني، ومبادرات في أي فضاء وجدناه حرًا ولو نسبيًا، مشاريع فكرية، ومشاريع اقتصادية، ومشاريع تنموية، ومشاريع خيرية. نقدنا السلطات، وهتفنا ضد الحكام كما تعاوننا مع المؤسسات حين أمكن (نقابات، جامعات، بل وأحيانًا وزارات) تواصلنا مع من سبقونا، تعلمنا منهم وعلمناهم. في المجمل رفضنا إرثهم لكن احترمنا تجربتهم.احتل توطين التكنولوجيا صدارة أولوياتنا. انخرطنا في تعريب المعجم، ثم ترجمة واجهات البرمجيات، كما علمنا الحاسوب قواعد العد والهجاء والصرف، صممنا خطوطًا، طورنا برمجيات، بنينا مواقع إلكترونية. مع الاهتمام بالتوطين وهندسة اللغة زاد اهتمامنا باللغة والثقافة العربية. فشبّكنا المدونين العرب وشجعنا الفنانين والكتاب والباحثين والمترجمين على إتاحة إبداعاتهم وما تحت أيديهم من تراث. وأثناء العمل على دعم المحتوى العربي على الشبكة اصطدمنا سريعًا بقيود الرقابة ومحاولات محاكمة وتكفير وحبس الكلمة. هكذا انضممنا لصفوف المدافعين عن حرية الرأي والتعبير والعقيدة وعن حرية الصحافة والحريات الأكاديمية.كما أسسنا شبكات إلكترونية وحركات سياسية أسسنا أيضًا شركات تقدم حلولًا وخدمات واستشارات للسوق المحلية، وسعينا لإقناع مستثمرين بضخ أموال، وإقناع مؤسسات باحتضان مشاريع خلاقة. أسسنا معامل ونوادي للتكنولوجيا بعشوائيات القاهرة وقرى الصعيد. بنينا شبكات لاسلكية لمد خدمة النت في أرياف مصر. ثم دعينا لنقل تلك الخبرات لإفريقيا جنوب الصحراء فانخرطنا في شبكات تسعى لإقرار الاتصال بالشبكة ودعم اللغات المحلية كأحد الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الأساسية.عندما انتبه العالم لوجودنا وصرنا مادة لمراكز الأبحاث وقصة تهم المراسلين أصررنا على طرح سردية خاصة بنا، ورفضنا أن تُفرض علينا سردية، وحللنا وكشفنا ارتباط السردية المطروحة بمصالح وانحيازات لا تعبر عنا. لذا دُعينا للمشاركة في مؤتمرات في مدن جنوب وشمال العالم.اشتبكنا مع الواقع وحاولنا تغييره والتأثير عليه واستباقه والمساهمة في صياغته. كنا طبعًا من أضعف الأطراف الحاضرة ولكن كنا حاضرين. في كل خطوة اصطدمنا بقيود أمنية وعوائق بيروقراطية ومؤسسات متكلسة وعلاقات قوة غير متوازنة. في كل مسار مشينا فيه فُرض على طموحنا سقف شديد الانخفاض واستهلكت جهودنا في الكثير من العبث.شاركنا في هذه الرحلة أقران كثر، كلٌ في مجاله. بعد عقد من الغضب والحلم، من العمل والفهم، من محاولات الإصلاح والتأقلم مع الهوامش، من التجربة والمطالبة والاعتراض، وصلنا كلنا لنفس الملاحظة: أن العالم كله مأزوم وفي طريقه للتغير، وأن مجتمعاتنا ستُسحق إذا لم نشتبك مع هذه التحديات. ومنها وصلنا لنفس النتيجة الحتمية؛ أن النظام الحاكم عائق أساسي أمام إطلاق طاقات المجتمع لتجديد نفسه وتحديث مؤسساته حتى يتمكن من الاشتباك مع هذه التحديات. لذا ما تفاجأنا بالثورة وإنما طلبناها، وما استغربنا إلهامها لحركات احتجاجية في أوروبا وأمريكا، ألم تلهمنا احتجاجات سياتل وجنوة؟ ألم نحتج معًا ضد الحرب على العراق؟ ألم ترتبط جهودنا في التغيير والإصلاح بنقاشات مفتوحة ونضالات مشتركة ومجتمعات افتراضية جامعة لرفاق من كل القارات؟ثم هُزمنا، وهزم معنا المعنى. ومن يوم هزيمتنا ما طرح موضوع مركب إلا وسُفّه سريعًا حتى يصعب الفهم ويستحيل الفعل. فأزمة الطاقة سببها موظف مرتشي بيلعب في السكينة، أو سببها غزة، وأزمة الدولار سببها تعيين ابن أخو عبد الحكيم عامر أو شركات صرافة إخوانية.حسمت السلطة أمرها، فالمعنى خطر، والانتصار له جريمة، والمشغولون به أعداء، وما سلوكيات مثل التواصل مع العالم لمحاولة إدراكه والتأثير فيه، أو نقد أوضاع قائمة والتحذير من أزمات قادمة، أو الانخراط في عمل فردي أو جماعي بغرض التأثير على الأسواق والمؤسسات، إلا إرهاصات لحروب الجيل الرابع.قُضي الأمر. هُزمنا وهُزم معنا المعنى، وكما كنا في كل خطوة نتأثر بالعالم ونؤثر فيه، كانت هزيمتنا عرضًا وسببًا لحرب أوسع على المعنى وعلى جريمة أن يسعى أفراد لمجال عام عابر للحدود يسعون فيه لتقارب وتبادل وتواصل، بل وتشاحن يسمح بفهم مشترك للواقع، وبأحلام متعددة بعوالم بديلة.أنا في السجن سعيًا من السلطة لأن تجعل منا عبرة. فلنكن عبرة إذن ولكن بإرادتنا.‬ الحرب ضد المعنى لم تُحسم بعد في باقي العالم.‬ لنكن عبرة لا فزاعة، لنتواصل مع العالم مجددًا، لا للاستغاثة ولا للبكاء على أطلال أو لبن مسكوب وإنما لاستنباط دروس وتلخيص خبرات وتكثيف مشاهدات عساها تفيد المناضلين في زمن ما بعد الحقيقة.عن نفسي لم أخرج من عقد الغضب إلا بدروس بسيطة، أهمها أن كل محطة من محطات الجدل والصراع في المجتمع فرصة، فرصة للفهم وفرصة للتشبيك وفرصة للحلم وفرصة للتخطيط. حتى لو بدت لنا الأمور بسيطة ومحسومة وحددنا انحيازًا مبكرًا لأحد أطراف الصراع، أو انصرافًا مبكراً عن الأمر برمته، يظل انتهاز تلك الفرص لتعاطي وإنتاج المعنى ضرورة، بدونها لن نتخطى الهزيمة أبدًا.تعلمت أن السلطة مجرد عائق. التحديات الحقيقية أممية، لذا تتضاعف أهمية انتهاز فرصة الجدل عندما يتعلق الصراع بأمور تتخطى الحدود.أخيرًا، الانحياز للطرف الأقوى غالبًا غير مفيد. القوي لا يحتاج منك إلا ترديد جمله الدعائية. الضعيف كثيرًا ما يكون مزعجًا بقدر ما هو منزعج. صاحب حجة هشة ومنطق متهافت بنفس مقدار هشاشة موقفه من المجتمع وتهافت أسباب أمانه وبقائه. لذا، فالانحياز له ولو على سبيل التجربة، محفز لتفكير وتحليل وتقصي وخيال أعمق.كنا، ثم هُزمنا، وهزم معنا المعنى. ولكن لم نفنَ بعد وما قُتِل المعنى. ربما كانت هزيمتنا حتمية، ولكن الفوضى الحالية التي تجتاح العالم سيتمخض عنها عاجلًا أم آجلًا عالم جديد، عالم سيحكمه ويديره بالطبع المنتصرون، ولكن لن يقيد الأقوياء، ويصيغ هوامش الحرية والعدل، ويحدد مساحات الجمال وإمكانات العيش المشترك إلا ضعفاء تمسكوا بالانتصار للمعنى، حتى بعد الهزيمة.

مصطفي جمال عوض – حقنة غلط في الوريد

مصطفي جمال عوض – حقنة غلط في الوريد

ادوني حقنة غلط في الوريد عشان يوقفوا النزيف قبل ما أروح المستشفي وفضل النزيف شغال وجالي هبوط حاد ولما قاسولي السكر لقوه( 470) ودخلت في غيبوبة راحو حولوني المستشفى.
ولما روحت هناك دخلوني العناية المركزة ولما السكر والضغط ظبط خرجوني من العناية لكن النزيف بردو فضل موجود !
ولما كشفت عند دكتور مسالك قالي عندك تضخم في الكبد وتضخم في الطحال بنسبة كبيرة وفي إرتجاع في الكلية الشمال وتضخم في جدار المثانة وإحتمال إن تضخم جدار المثانة يكون نتيجة سرطان ولازم تعمل اشعة بالصبغه علي المثانة و أشعة مقطعية ضروري جداً ولما قولت لاستاذ مجدي مدير العيادة إني لازم أعمل اشعة وهدفع أنا فلوسها قالي لازم دي احنا اللي نقول عليها ونحددها ولو مسكتش هرجعك السجن تاني.

محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – في الأُفُقِ نُورْ

محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي) – في الأُفُقِ نُورْ

[في الأُفُقِ نُورْ]
(1)
اسْمَحْ لي أن أحكيَ لكَ. هذا ما حدث بالضبط. منذ شهور, رئيس مباحث السجن بلهجةٍ صارمةِ فاجأ الجميع بعد أن فتح باب الزنزانة ليلًا, وطلب منا الخروج لساحة العنبر ريثما ينتهون من تفتيش زنزانتنا. الكل تعجب إذ لا تفتيشات ليلية هكذا. وابتسمتُ أنا, إذ كنت أوقن أن الله طيبٌ, وأحسُ أنه سيحقق لي رغبتي البسيطة قريبًا.
لا يُفتح الباب ليلًا للمعتقلين, إلا في حالة مرض أحدهم بشدة تستدعي الخروج وحدَه لتلقي علاج بائس من مستشفى السجن. قبل دخول "الباشا" بساعات كنتُ أسأل الله أن نخرج سويًا لنرى سماء الليل.. لنأنس لسكونه.. لنتنفس رائحته بعيدًا عن عطن الزنزانة, وقد كان. خرجنا, وانطلقت كمهرٍ انفّكَ لجامه في حقلٍ فسيح. كنت أركض حافيًا بفرحٍ طفولي يبدو غريبًا داخل مشهد تؤطره الجدران والقضبان. سرت بيننا حالة من اللعب والمرح, وبين الضباط حالة من الذهول أو الاستهجان ربما, لم أهتم. كنت أنظر للسماء, أقفز, أتنفسُ, أشكرُ الله, وأغني..
بعد الفورة الأولى, استلقيتُ أرضًا على ظهري. أطبقتُ جفني فداهمتني رغبة عنيفة أن أفتح أبواب الزنازن كلها ليشاركني جميع السجناء الانطلاق. قمتُ, ألصقت وجهي بالقضبان وأمسكتها كمن يريد ثنيها بينما أتأمل الأبواب المصفدة. لحظتها كان رفاق الزنزانة بدأوا التَحَلُّق في مجموعات ثرثرةٍ متناثرة. رغبتي تزداد إلحاحًا ولكن لا سبيل. السجن يروّض رغبات الإنسان بسياط القضبان, حتى تمسي خاضعة بشكل ما. قد يستطيع المرء أن يؤلف نغماتِ رغباته الحبيسة لحنًا رائقًا, فيصل لحالة من الصفاء الروحي لا يعرفها إلا الرهبان في صوامعهم, المتصوفون في خلواتهم وبعض السجناء في زنازنهم. وقد لا يستطيع المرء, فتندفع هذه الرغبات إلى الداخل بدلًا من الخارج وتغدو مُركّبَات كبتٍ حادة تدفع صاحبها إلى الانهيار أو التطرف. هكذا كنت أفكر عندما طلب مني أحد رفاق مجموعات الثرثرة بصوتٍ عالٍ, وبلا مقدمات "فوزي.. ألق لنا قصيدة". أصبح مطلبًا جماعيًا في ثوان خلالها كنت قد حسمت أمري: "قد لا يكون بوسعي أن أفتح الأبواب.. لكنني سأثقب في كل جدار ثغرة".
وقفتُ في منتصف الساحة.. ألقيت مقطعًا من الرقيم.. طلبوا المزيد.. حكيتُ لهم عن أحلام المتنبي الشاعر النبيل, واستبداد كافور الحاكم الخصي.. ثم ألقيتُ "للمُتنبي أقوالٌ أخرى", ليبدأ الرفاق داخل زنازنهم في التجمع حول فتحات الشبابيك ونظارات الأبواب, وأسمع منهم صيحات إعجاب, طلبات مواصلة, أو.. تكبيرات! لم أفتح لهم الأبواب لينطلقوا معي كما تمنيت, لكنني لم أرضخ. الضباط أنفسهم وقفوا متأهبين منذ بدأتُ الإلقاء, وكأنني أشهرتُ سلاحًا في وجوههم.. لم أهتم بهم. فقط كنت أحاول أن أحمّل نبراتي شيئًا من سعة السماء.. من لطف النسمات.. ومن جموح الليل لأمرره للرفاق في زنازنهم. صوتي كان عاليًا يكادُ يدق الحديد قبل أن يدخل لهم, وإلقائي كان حقيقيًا كما وصفه لي بعد ذلك رفيق الرحلة وسَنَدِهَا.. مُصطفى.
في تلك الليلة, قبل أن أنام, قفزت إلى ذاكرتي الجملة التي لم تَغِبْ عنها منذ اعتُقِلْتُ. "صوتك عالي.. وما بتسكتش". قالها لي ضابط في سلخانة التعذيب لم يشترك مع أصدقائه في حفلة اللكمات, حاول أن يلعب معي دور الودود الرحيم لينتزع من المعلومات ما عجز عنه أصدقائه. قال بعد أن يئسَ أنه متأكدٌ أن لا علاقة لي بالقضية محّل التحقيق, ولا بأي شكلٍ من أشكال العُنف أو "الشقاوة" على حد تعبيره, وأنني جئتُ هنا, ولابد أن أبقى فقط لأنَّ "صوتك عالي.. وما بتسكتش"
أكتبُ لكَ الآن وأعرفُ أن الضابطَ الودودَ, ربمَّا يقرأُ هذه الأسطر بنفسه.. اسْمَح لي أن أخاطِبُهُ: "مرحبًا بكَ مرةً أُخرى يا "باشا". هل تذكرني؟ أنا بالطبع لم أبصر وجهكَ لأذكره أصلًا, لا أذكر عن لقائنا سوى الظلام الذي أسكَنتْنِي فيه غَمَامتُكَ.. الظلام الذي علّمني كيف أقدس النور, وأحميه, وأمررُه للرفاق داخل زنازنهم ولو على جناحي قصيدة.. آه, وبالمناسبة أودُّ أن أؤكد لك, صوتي أصبح أعلى.. وأعلى.. ولن أسكت".
(2)
"إن مسيرة النضال هي ذاتها مسيرة المعرفة, فهي مسيرة باردة يعتريها الشعور بالوحدة والخوف من المجهول.. في حالة السجن كما في حالة الحصار, قمة النضال هي أن تبقى قادرًا على السؤال.." – ميلاد.
اليوم هو أوّل أيام عامي الرابع داخل السجن. عمري تجاوز ربع القرن بأشهر. كبرتُ. صارت لي ذاكرة تغصُ بالندوب. أعترف أنني خلال هذه السنوات مررتُ بحالاتٍ من الوهن, اهتز فيها إيماني بذاتي.. بمبادئي.. بل وبالله أحيانًا. لكنني عُدتُ. دائمًا ما أعود عبر الكتابة, الكتابة هي سؤالي, هي طريقتي الوحيدة لأسائل هذا العالم, وأتحدّاه في بحثٍ عن معنى الحق, الخير, الجمال, العدل.. والحب. الكتابة هي طريقتي الوحيدة لأنير لنفسي وللبشر من حولي طريقًا نفتش فيه معًا عن الحقيقة, بعيدًا عن منحدرات الزيف وفخاخ الصمت. إن الكلمة سرُّ هذه الحياة وسحرُها. "اقرأ". "في البدء كانت الكلمة". يؤمنُ البشر بهذه الحقيقة لكنهم كثيرًا ما ينسونها, ويستسلمونَ للصمتِ حين تحيطُ بهم طلقات الجنرالات المستبدين.. أذرع البنوك الأخطبوطية.. أو جدران السجونِ السميكة.
نصحني بعض أصدقائي أن أكتب عن أشياء أخرى مُنطلقًا خارج السجن, وبقيتُ أنا مُصِّرًا أن أغوص لعمق السجن أكثر قراءةً وكتابةً. أفتش عن أدب السجون دائمًا. أريدُ أن أعرف ماذا كتب هؤلاء البشر اللذين تعلقوا مثلي أحياءً في قبور, أن أعرف كيف يواجه الإنسان مصيره.. ويحمي ذاته من التآكل. للسجون جدرانٌ كالمرايا, يستطيع المرء أن يرى روحه عارية فيها بدقة متناهية. هنا تستطيع أن ترى الإنسان في نبله وخسته, في بطولته وعجزه. إن السجن تحدٍ شامل للإنسان على قدرته أن يظلّ.. إنسانًا.
يقول صديقنا ميلاد _ الذي لا أعرف إن كان شخصية حقيقية أم متخيلة, فقط استمعتُ لتسجيلٍ منقولٍ عن رسالة كتبها من سجنه, فاتخذته صديقًا, وأوردت الاقتباس في أول الفقرة من رسالته.._ يقول: "إن الكف عن الشعور بالصدمة والذهول أو بأحزان الناس ومعاناتهم, وإن تبلُّد المشاعر أمام مشاهد الفظائع كان بالنسبة لي هاجسي اليومي ومقياسي لمدى صمودي وصلابتي.. جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة, وجوهره الجسدي هو العمل, وجوهره الروحي هو الإحساس.. والإحساس بالناس وبألم البشر هو جوهر الحضارة الإنسانية, وهذا الجوهر تحديدًا هو المستهدف في حياة السجن عبر الساعاتِ, والأيام, والسنين..."
أقرأ وأكتب لأحمي هذا الجوهر من الضياع. بوسعي أن أجزم الآن أن الشعر تحديدًا طوال هذه السنوات كان كوة النور التي تحميني من فقدان هذا الجوهر. قد لا تقوى القصيدة لفتح باب أو هدم سور, وقد تظل الكلمات طيورًا مهاجرة بين سماوات القلوب لدهور دون أن تحط بعشٍ واحدٍ في وطن قائلها, لكنها دائمًا _وإن طال المدى_ تعود لأوطانها حاملة النورَ الحقيقيَّ الكفيل بتغيير هذه الأوطان.
حالًا بينما أخط لك هذه الأسطر, عادني ذكرى لقائي البعيد والوحيد معك, بعد أحد لقاءات الجمعية الوطنية للتغيير:
- طب حضرتك تفتكر العمل الثقافي أقدر وأولى في تغيير البلد ولّا العمل السياسي؟
= بص.. إن لم نشارك جميعًا في تغيير الأوضاع السياسية لمصر ستبقى كل محاولات
البناء
الثقافي كالحفر في الماء والنحت في الهواء. لازم الثقافة, الفن, الأدب والشعر يشاركوا في
التغيير دا.. بجدية.
صاحب الإجابة كنت أنتَ الشاعر عبد الرحمن يوسف, منذ ست سنوات, في نهاية عام 2010 تقريبًا, وصاحب السؤال كنتُ أنا, أو للدقة ذلك الفتى في عامه التاسع عشر والذي شاركتَ أنتَ بشعرك وبتواجدك السياسي في تشكيل وجدانِهِ. سألتُكَ. أجبتني. ذهبتُ بعدها وجوابك مُحلقٌ في ذاكرتي.. أذكره جيدًا.. أذكر ابتسامتك.. نبرة صوتك المشعة بالأمل رغم ما كانت تعانيه مصر.. كما وأذكر جدًا القصيدة التي ألقيتَها أنتَ يومئذٍ "في الأُفقِ نور".
لم أكن أتخيل أن السنوات ستمر خطفًا هكذا, وأنك بنفسك من ستكتب لي مقدمة ديواني الأول. فرحتُ بحقٍ عندما قرأتُ المقدمة.. وقررتُ أن أكتب لك لأحكي بعضًا مما نعايشه بالداخل, حكيتُ ليلة التفتيش تلك تحديدًا لأني أحبها, ولأنها _لسبب ما لا أعرفه_ مرتبطةٌ في ذاكرتي بِكَ.
أستاذ عبد الرحمن يوسف, هل تسمح هذه الذاكرة المشتركة بيننا أن أُبدِّلَ النداءَ فأقول "صديقي"؟ صديقي القريب رغم الأسوار والمسافات أشكُركَ.
أشكركَ لأنَّكَ مازلتَ حُرًّا وثائرًا كما عرفتك دومًا. وأشكُركَ لكلماتِكَ الراقية في مقدمة الرقيم. وأعاهدك أنني هاهنا في أحلك بُقعَةٍ من الظلام الذي يُحيطُ أوطاننا سأبقي القصيدة في ضلوعي سراجًا.. لا يستطيعُ السجَّان إطفاءَهُ أبدًا. وسأبقى رغم كل هذا الظلام أؤمن معَكَ دائمًا أنَّهُ "في الأُفُقِ نُور".
مارس 2017

احمد الخطيب – عندما كُنا صغارًا

احمد الخطيب – عندما كُنا صغارًا

عندما كُنا صغارًا كنت أظن أن الموت لا يحصد إلا من شاب شعره؛ ولكن في زمننا هذا
أصبح الموت لا يخطف إلا من هو صغيرًا، أصبح الموت يلاحقني يا أُمي وأنا لا أتعدى الـ ٢٥ عامًا من عمري، المرض يا أُمي جعلني قريبًا جدًا من الموت وأنا لاحول لي ولا قوة.
أكتب لكي يا أُمي وأنا أشعر بالموت مئات المرات، وأنا بعيد عن حضنك الدافئ، لكم كُنت أتمنى أنا أهنئك بعيدك: "كل عيد أم وأنت سعيدة" ولكن هذا ما استطعت أن أكتبه لكِ وأنا قابع
وسط أربع حيطان: "خائفٌ أنا.. ليس من المرض ولكن أن أظل هنا وأموت بين جدران هذه الزنزانة البالية وأصبح فقط مجرد رقم في تعداد الموتى.. كما أنا الآن مجرد رقم هنا!".
يرفض عقلي التفكير في أن أموت هنا بعيدًا عنك يا أمي وعن إخوتي..
أخاف أن أموت وحيدًا وسط أربع حيطان !".
أنا أحمد عبدالوهاب الخطيب، يقولون أنني مصاب بداء "الليشمانيا الحشوي" الذي سأسلم له روحي آجلا أم عاجلًا يا أُمي، فالمرض الآن يا أمي يلعب لعبة الموت الأخيرة، فهو يدمر
مناعتي بعد أن كنتِ تحميها في الصغر، أصبح يدمر كرات الدم، الكبد، الطحال، والمعدة،أصبح ينهش جسدي وأنا مكتوف الأيدي.
يقولون يا أمي أن مرضي نادر وخطير ومميت وليس له علاج؛ ولكن هل تعرفين ماهو المُميت بالنسبه لي؟ عدم وجودك بجواري وأنا على فراش المرض كما كنتِ تراعيني في الصغر، ياليت لو يعود بي الزمن يا أُمي مرة أخرى وأنا بين أحضانك ما كنت أتمنى أن
أصير شابًا ولو لحظة.
مر زمن كأنه ما مر، ومر زمن كأنه سنوات طوال فهل تشرق الشمس مرة أخرى وأنا مبتسم
حي أم تشرق وأنا راكد تحت التراب لعله ينصفني وتتحقق العدالة الأبدية.