ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي) – وحدي في الشارع

اسم السجين (اسم الشهرة) : ايمن علي ابراهيم موسي (ايمن علي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 4/8/2017

السن وقت الاحتجاز: 21 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة البريطانية بالقاهرة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

وحدي في الشارع

وحدي في الشارع.. الظلام يلف كل شيء.. السماء تسيل دموعاً بلا توقف.. أزيز مصباح العمود يتردد.. أرى شبحاً يسير نحوي!
برقٌ يشق السماء فيلمع ما في يده.. برق يضيء و يعميني للحظات.. أغمض عيني بقوة.. افتحهما فيختلف كل شيء! برقٌ يشق السماء فيلمع ما في يده.. برق يضيء و يعميني للحظات.. أغمض عيني بقوة.. افتحهما فيختلف كل شيء!مصباح أمامي تهتز إضاءته.. يقف تحته شبح أزرق الملبس يرتدي “كاحول” -الزي الرسمي لنزلاء السجون- و يرمقني في رعب.. أتحرك نحوه و بيدي سكين عملاق!
برق ورعد..
رعد و برق..
أعود تحت العمود!
توقف المطر…
صمت مزعج يغشى الوجود.. و مازال يقترب مني!
يعلو صوت لتسجيل آت من اللامكان بصوت أمل دنقل، بصوته الهاديء.. البائس.. اليائس:
“يا قيصر العظيم
قد أخطأتُ
إني أعترف!
دعني على مشنقتي ألثم يدك!
ها أنا ذا أقبل الحبل الذي يلف عنقي يلتف؛
فهو يداك..
و هو مجدك الذي يجبرنا أن نعبدك!
دعني أكف عن خطيئتي…
أمنحك بعد ميتتي جمجمتي
تصوغ منها لك كأسا لشرابك القويّ!”
أقترب من هذا الشخص حتى لم يعد بيني و بينه شيء.. يقف و أرى سكينه بوضوح في يدي.. تتراخى أطرافي في ارتياح وطمأنينة.. و ابتسم!
أكمل مع “أمل دنقل”، بصوت هاديء:
“فإن فعلت ما أريد
إن يسألوك مرة عن دميَّ الشهيد
قل لهم: “قد مات.. قد مات غير حاقد عليَّ!
و هذه الكأس التي كانت عظامها جمجمته
وثيقة الغفران لي.”
أضاءت اللمبة.. أرى ملامحه أمامي بوضوح.. لا أعرفه..
لا.. بل يعرفني!
يبتسم بسمة جنونية واسعة.. يهز رأسه هزة عنيفة مثل ال jockerr و لكن من غير شعر مستعار ولا ميكياج..
ردد معي بصوت عال يؤكد جنونه:
“يا قاتلي..
إني صفحت عنك!
في اللحظة التي استرحتَ بعدها مني؛
استرحتُ منك!”
ثم بحركة سريعة وجدت السكين يشق صدري و يخترق قلبي.. برق يضيء للحظة.. فتظلم كل الأضواء من حولي بعدها!
أشعر بالسكين يدور كدوامة تسحبني.. نحو الخلاص!
يلف فيدخل الهواء و شيئاً فشيئاً لا أشعر ببرودة السكين..
شيئًا فشيئاً لا أشعر بأي شيء!
ظلام..
وابتسامة!
فتحت عينيَّ.. مازلت مبتسماً على فرشتي في الزنزانة
لم يكن كابوسا.. بل حلم!
حلم أن أرى الشارع، أن أرى القمر!
حلم أن أجد سكيناً يخترق هذا القلب الذي تحجر من الزمن.. حلم أن ينتهي الكابوس الذي أحياه..
حلم أن أموت سريعا بلا ألم!
بدلاً من هذا الألم البطيء بلا موت!
حلم أن أذهب إلى عالم آخر.. عالم به عدل و رحمة!
أظن أني لو خيرت بين الموت و الخروج من السجن.. لأخترت الموت!
اعتدل في جلستي.. تبهت الابتسامة حتى تختفي في عتمة الزنزانة..
أشهق بعمق.. أزفر بقوة..
لا أحد مستيقظ…الزنزانة هادئة.. أدخل يدي في مخبئي مخرجاً مُفكرة صغيرة أهداها لي عبدالرحمن عارف -أقرب الأشخاص إليَّ- منذ شهور قبل خروجه في العفو الماضي..
ابتسم! فأي شيء منه يسعدني..
أنظر إليها متأملاً.. كيف خرجت من سجن إلى سجن دون أن تمزق أو تحرق ككل الورق في كل السجون!
افتحها فتسقط منها أول جواب من عارف بعد خروجه.. أبدأ في القراءة في إضاءة منعدمة.. أرى الأحرف بقلبي قبل أن أراها بعيني:
“سامحوني أحبتي..
الآن أنام على الأسرة الوثيرة.. أصلي في المساجد.. نعم! أقف كما يحلو لي ولا أشم رائحة النوم مكان السجود.. ولا أرى الخارج في الدعاء!
أشرب القهوة الإيطالية المركزة كما أحبها.. بالفعل استمتع برائحتها و طعمها و حتى صوت الماكينة و هي تعمل!
أرى وجه أمي المنتقبة لأول مرة منذ 1286 يوم!
أتلمس صفوف الكتب الممنوعة من الدخول.. أشم رائحة الورق الذي لم تظهر رائحته من شدة الروائح بالداخل!
أتكلم في الهاتف و استخدم كافة أنواع التكنولوجيا كما أحب!
أستخدم السيارات في التنقل.. و بالفعل الجلوس على كراسي منفصلة بدون قيود في المعاصم ممتع! و النظر للأمام أكثر راحة من أن ترى الشوارع بجانبها!
أستمتع بالمراكز التجارية و المطاعم المشهورة.. و الطعام المُعَدُّ بعناية فقط كي أرضى.. لن أتذكر -أو أذكر- الطعام المعد لكم!
نعم أستمتع!
إن جاز إطلاق لفظ الاستمتاع على كل هذا الهراء!
سامحوني..
لن أعيد الكلام المكرر عن أن الداخل أفضل، و أن البلاد اصبحت سجن كبير.. هذا لن أقوله أيضا!
سامحوني..
لكن الحياة هي السجن!
موات الروح هو الحرية بدونكم!
قلبي يكاد ينفجر و ينفرط من الوجع..
انتفض من النوم كلما تذكرت أنكم بالداخل!
روحي لا ترتاح!
ولكن صدقوني -و أخبروا الآخرين!-.. أستمتع جدا!
ألا ترون وجهي و بسمتي؟
ألا يبدو البشر والسرور في عيني؟
ألا يظهر لكم انطلاق روحي و رواحها؟
ألم تشموا عبير الحرية في قلبي؟
ألا تصدقوني؟!
أنا حر!
صدقوني!!”
أطوي الرسالة بغضب..
“لماذا تعتذر؟!” أكلمه.. أعلم أنه غائب و لكني غاضب.. و الغاضب نصف مجنون.. و أنا بدون غضبي نصف مجنون! فعندما أغضب يكتمل جنوني.. فلا مانع من أن أحدث الهواء و أقول: “لماذا تعتذر؟!”
“أتعتذر على حياة طبيعية؟
أوصل بك الحال أن تعتذر على نومة مريحة، وعلى استمتاعك بكوب من قهوتك المفضلة؟ أو أي شيء مما ذكرت؟!
هذه أدنى متطلبات الحياة، فلا تعتذر!
لا تعتذر على بسمتك و سرورك و إنطلاق روحك.. فتلك التي تحيينا هنا!
لم تر وجه شقيقك “علي” عندما سمعنا بخبر خروجك، و لم تره بعد أول زيارة زرتها له.. لم تره و نحن داخلان سوياً إلى العنبر بعد الزيارة..
لأول مرة أرى شيئا يحيا في “علي” مذ تركتنا و ذهبت إلى سجن آخر مجبراً
لا تكن مغفلاً يا عبدالرحمن، ف انقباض روحك و قلق نومك و وجع قلبك هم الذين يقتلوننا.. فلا تقتلنا أحياء!
كفى!
استمتع بكل لحظة يا صديقي..
انتهز كل فرصة و عوض أيامك الضائعة.. أيامك المسروقة منك.. عوض 1286 يوماً!
أركض..
أقفز..
اخرج كل يوم..
أجلس في بيتك و لا تفعل شيئاً..
نم… نم نومة هادئة هانئة!
اقرأ..
افعل ما يسعد روحك!
افعل ما تريد و لا تؤذي أحداً..
سافر.. انسانا لبضعة أيام.. انسانا للأبد إن أردت!
واستمتع بحق!
و اعلم أني أحبك كما أنت.. جميل.. طيب!”
ألمح أحدهم مضجعاً ينظر إليَّ باستغراب و خوف.. معه حق.. فهو يرى أمامه سجين حكم عليه بخمسة عشر عاماً يحدث نفسه بالفصحى بصوت هامس.. هو يرى أمامه مجنوناً!
أنظر إليه بحدة.. فيشيح بوجهه و يكمل نومه.. أمسح دمعة تكاد تفلت و أنهض لأغتسل…
أعود باحثاً عن قطعة المرآة الصغيرة المهربة، لم أر وجهي منذ آخر زيارة..
ف في الطبيعي أنظر إليها قبل الزيارة لأتدرب على الابتسامة التي سألقى بها أهلي.. لا لكي أرى وجهي!
لماذا أبحث عن المرآة الآن و لن أزور اليوم.. ولا غداً.. لن أزور قبل عشرة أيام أخرى.. فلماذا أبحث عن المرآة؟!
وجدتها!
أتوقف عن التساؤلات و أنظر ببطء لوجهي..
أرى شبحي وسط عتمة الزنزانة.. أدقق النظر في دهشة!
هذا هو.. هذا أنا.. قاتلي