عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – من أيام قليلة

اسم السجين (اسم الشهرة) : عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 6/18/2017

السن وقت الاحتجاز: 18 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة

من أيام قليلة

من أيام قليلة، علمت باحتمالية استبعادى من دخول برنامج العفو الرئاسى، بدون أى سبب على الإطلاق. غالباً، كثير علينا و طمع منا أن أخرج أنا و والدى كلانا.
استلقيت على ظهرى محدقاً فى الخواء. كعادتى. مصيبة. كارثة. بلوى أخرى تقف وراء أخواتها فى طابور البلاوى التى تنهمر على رأسى و لا تمنحنى فرصة ان أتنفس.
لماذا لا أشعر إذاً بشئ؟
انتظرت الألم المعتاد. اليأس. العذاب. لم يأتوا. ظللت افكر. أحاول استيعاب المعطيات الجديدة. أن قضائى لاحدى عشرة سنة أخرى وراء القضبان صار نافذاً و مؤكداً إلا بمعجزة. أنى قد لا يكتب لى أن أعيش فى وسط أسرتى مرة أخرى. أن الأعوام الأربع التى قضيتها فى السجن ليست إلا مدخلاً و جزءاً بسيطاً مما سيأتى.
ألم بسيط. هناك شئ مختلف. ربما تعودت الكوارث حتى لم أعد أتفاعل معها. ربما سئمت البكاء و الشكوى.
لكن هذه المرة أشعر بشئ غريب. شئ ناقص. ما يحدث لى تباعاً سوءه و قبحه زاد بشدة.
زاد عن الطبيعى الذى يحدث لأى أحد يعيش حياتى بمراحل، ثم زاد على هذه المراحل مراحلَ.
هناك شئ من المفترض أن أفهمه أظل أغفله أو أتغافل عنه. شئ بت أشك أنه غاية سجنى و سببه، لذا يظل يسوء و يسوء حتى أفهمه. لكنى لا أستطيع أن أضع يدى عليه.
حاولت كثيراً معرفة الحكمة من سجنى. أفنيت نفسى فى الدراسة و المذاكرة، ربما تكون السبب.
قرأت عدداً عظيماً من الكتب، علها تكون السبب. فعلت الكثير و الكثير، و ما زلت أشعر بشئ ناقص.
أمسكت بجريدة؛ و قرأت مقالاً لعمر طاهر، أجابنى صافعاً.
“أنت فى معية من تنتظر. فكما أن انتظار الصلاة صلاة، فانتظر الفرج بما ينطوى ذلك عليه من أمل و ثقة هو فرج، و انتظار المتعة متعة، و انتظار وقوع الكارثة وقت محمل بالوجع. معية الرسول و أبى بكر فقد كانت تحت قوله تعالى “لا تحزن إن الله معنا” و معية الله متحققة طوال الوقت “فأينما تولوا فثم وجه الله” ألم يكن أبو بكر على علم بهذا الأمر؟ بلى، لكن تحت وطأة الموقف ربما نسى، و لم يكن قول الرسول سوى تذكير ينطوى على أمر إن الله معنا، فكن معه. الثابت أنه معنا، و عليك أن تغلق الدائرة بأن تصبح أنت معه.
الله معك و هو فى انتظار أن تكون أنت معه، مما يعنى أنه فى معية من هو فى انتظاره. فى معيتك أنت. الله ينتظرك فى حين أنك تتوهم العكس. نظرة من فرط سهولتها تبدو صعبة، لكن فى حال إمساكك بها لن يفرق معك أى شئ فى الكون”
يا الله. الله معك، فكن معه. الثابت أنه معك، أنت من عليك أن تغلق الدائرة, كل هذا الوقت الذى كنت تنتظر فيه و تنتظر، و تتألم خلال الانتظار، لم يخطر ببالك أن الوضع معكوس.
أنه هو من ينتظرك، لا أنت. أنه بالفعل معك، لكن الدائرة مفتوحة من طرفك أنت، لا من طرفه هو.
كنت دوماً ما أفكر فى موضوع الابتلاء. و لماذا عندما يبتلى من نحبهم نصر أنه اصطفاء من الله و حب و رفع درجات، بينما إذا ابتلى أحد نكرهه، نكون على يقين أن الله يعذبه و ينتقم منه.
لماذا ليس العكس؟ أهو أمر خاضع لهوىً شخصى، أم شئ نصبر به أنفسنا فى الحالتين؟
بعد فترة عثرت على إجابة أراحتنى. أنت من يحدد سبب الابتلاء. رد فعلك له هو الإجابة. انظر لأى شخص قبل الابتلاء و بعده، إن زاده البلاء خيراً و غيره للأفضل، تعلم وقتها أنه كان حباً من الله، فليس منطقياً أن يعذبك الله فتدور أنت حول قصده و تستفيد من عذابه. و كذلك العكس، إن زادك البلاء انتكاساً و سوءاً فهو إذاً عقاب، و كم قابلت فى السجن من الصنفين. أنت من يحدد. هو اختيارك. بإمكانك أن تخطو و تغلق الدائرة بينكما، أو أن تزيد فى السير جهداً، و عن القصد بعداً.
فكرت كيف رحل عنى الجميع. كيف لم يبقَ تقريباً غير قلة أقل من القليلة ممن كانوا أعز أصدقائى بالخارج. منهم من اختفى من أول يوم. منهم من مكث عاماً. منهم من مكث اثنين. و لكن فى النهاية انفض كل منهم لحياته و لم يبق حولك إلا من معك فى السجن. و إذا بعد سنين بهم يرحلون أيضاً و يلحقون بمن انفضوا من قبلهم، و يتركونك ثانية وحيداً. و كلما زدت فى المدة زدت فى الوحدة. ألم تفهم الرسالة؟ هو الثابت الوحيد. هو وحده لن يرحل. لأنه لم يأتِ. هو كان دوماً معك. و ما زال. و سيظل. و سيظلون ينفضون حتى لا تجد إلا هو. و من وجد الله فماذا فقد؟
تذكرت مقولة تقول: “حين تصدق فى حبك له، فاعلم أنه مهما اختارك لما قد يراه البعض اختباراً، فإنما هو فى الحقيقة يساعدك لتعرف جديداً عن نفسك. لتكتشف نفسك من جديد. لذا فاستمتع بما يختبرك به، و أبصر ما ستعرفه بمدده عن نفسك بما ستكشفه أنواره لك عن أمور لم تكن تعرف أنها لديك. لم تكن تعرف أنك تحتاجها.
يختبرك لتعرف نفسك أكثر، فترى مدده و فضله، فتعرفه أكثر، فتحبه أكثر، فتنمو أكثر، و يصير القرب أوضح”
حقاً. لن تصدق فى حبك له، حتى تحب بصدق كل ما يأتيك منه.
أعلم أنى قد أنسى كل هذا غداً. أعلم أنى قد أصبح فى الصباح مدمراً. أغلق عينى و أدعو من قلبى بأروع دعاء سمعته فى حياتى، و دموعى تسيل :
“اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى، و قلة حيلتى، و هوانى على الناس. أنت رب المستضعفين، و أنت ربى. إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى. و لكن عافيتك هى أوسع لى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له السماوات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة. من أن ينزل بى سخطك. أو يحل بى غضبك. لك العتبى حتى ترضى، و لا حول و لا قوة إلا بك.”
ادعوا لى بالقوة.
عبد الرحمن الجندي