عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي) – الإنسانية

اسم السجين (اسم الشهرة) : عبد الرحمن محمد مصطفي المرسي الجندي (عبد الرحمن الجندي)

النوع الاجتماعي : ذكر

تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 12/7/2017

السن وقت الاحتجاز: 18 عام

الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الهندسة بالجامعة الألمانية بالقاهرة

مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون/تأهيل وادي النطرون

الإنسانية

الإنسانية.
كلمة أرَّقتنى ليالىَ طويلة، و هوت بى من فوق أعلى قمم جبال الألم.
لأيام طويلة، أفقد فيها الأمل. أكفر بها و بكل ما تمثله. و بكل من تمثله. كذبة. أحقر كذبة خدعنا بها أنفسنا. أنظر إلى كل ما حولى. إلى كل من حولى. مظلمون. مظلمون يعيشون فى ظلام. كوكبنا الأزرق الجميل. تحسده الشهب الخاطفة و هى تمر حوله فى الفضاء. تحسدنا عليه. و لو علمت ما فى الجوهر لما حسدت المظهر. أما رأت كل أصحاب حقيقة مطلقة منذ بدء الخليقة يصارعون بعضهم، كل لفرض حقيقته على الكوكب، و ظلت المطلقات تتصادم و تتصادم كذرات تفاعل كيميائى، لا يزيده التصادم إلا تصادماً، فتنطلق و لا تتوقف، لأن التفاعل الكيميائى يهدأ و يستقر عند أعلى درجات العشوائية، أما نحن على عكسه: عشوائيتنا لانهائية.
لذا -و رغم كل التصادمات- لم تُفرَض حقيقة يوماً ما منذ ظَهرَ الإنسان على وجه الكوكب الأزرق. و لن تُفرَض.
و لكن شيئاً واحداً يموت كل يوم و كل ثانية: الإنسانية.
أحياناً، فى أشد لحظاتى بؤساً و أحلكها ظلاماً، أفكر.
أيراقبنا الله من أعلى، و يرى كل هذا الظلام، و يرضى؟
ألهذا خلقنا بالفعل؟ أكما يزعم كل من يتكلمون باسمه، خلقنا ليذبح كل صاحب مطلق كل من اختلف مع مطلقه؟ أوليس يرى كل فرقة من الناس تزعم احتكار حبه و نصره و مباركته، و أنه معها دون غيرها؟
مع أى منهم أنت يا رب؟ أم أنك لست مع أيهم؟ أم أنك معهم جميعاً؟ أأنت معى و إن لم أكن مع أيهم؟ أم أنى سأفقد حضورك فى قلبى للأبد؟
أيائس أنا من الإنسانية جمعاء؟
للأسف، لا.
و أحياناً أتمنى لو يئست. أتوق و أهفو لثابت كالصخر أوقن به حتى و لو كان اليأس. لكنى قلبى لا يعرف الراحة أبداً، لأنى كما أفقد الأمل ليالٍ طويلة، ففى ليالٍ أخرى، أكاد من فرط الجمال أذوب.
تتجلى لى الإنسانية فى أسمى و أبلغ معانيها، فى أصغر و أتفه الأشياء.
فى نظرات بآلاف الكلمات. فى مشاعر الإنسان التى تحطمت على صخور محيطاتها كل سفن العلم.
فى الحب و التضحية. فى أمى، و أبى، و أخى، و أختى، و استعدادى لأعبر البحر و أركل الكواكب و أطفئ النجوم لأحميهم من لحظة ألم. و كيف يعتصر قلبى و يُسحَقُ ألماً، و هم يرسفون فى أغلال الوجع و يضحون كل يوم بلا شكوى بسببى و لأجلى. و كيف أعود لألمس فى ألمى هذا و ألمهم عين و جوهر الإنسانية.
كيف ينسف الحب و التضحية بكل لا منطقيتهما، جميع قواعد الرياضيات، فيثبتان أن أحياناً يكون الكل أكبر من مجموع الأجزاء، و أن واحداً و واحداً قد يساويان أحياناً أكثر من اثنين.
تمثلت لى الإنسانية فى مشهد عجيب، لفتاة على المسرح الغارق فى الظلام، تسلط عليها بقعة من الضوء، و تلعب بأصابعها على البيانو جمالاً. تتسارع أنفاسها و تتحرك بعنف انسيابى، فكأنها تصب ما فى قلبها صباً. كأنها -أقسم- تعزف روحها. فتستقبلها أرواحنا فتعرفها. و ما تكلمت و ما تكلمنا. و أرى الدموع فى أعين الجميع، فأعلم أنهم يشعرون بما أشعر. و يحسون بهذا الشئ مثلى. الشئ الذى هو أكبر من مجموع أجزائنا. الشئ الذى لا يجد أينا له تفسيراً.
تكلمنى دوماً آية فى سورة الأنعام تقول: “أومن كان ميتاً فأحييناه و جعلنا له نوراً يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها..” أحياناً أشعر أنى أتخبط فى الظلمات. و أنى لن أخرج منها. أن قلبى مات و دفن. و أحياناً ألمس النور. و أعلم أنه منه. و أنه معى. و أنه كان دوماً معى، و لكنى أنا الذى لم أكن معه. و عندما يملؤنى النور أدرك أخيراً الفرق بين “من كان ميتاً” و من “أحييناه”.
ما الحكمة يا رب؟ ما الحكمة من كل هذا؟
يطمئننى أن الحكمة موجودة. أزلية معه فهو الحكيم. و لكنى لن أراها و لن أفهمها الآن.
و إلا، فما الإيمان؟
أؤمن. أصدق فى وجودها الذى يشفى كل جراح الروح و إن لم أفقه كنهها الآن.
علَّنى عندما يوماً ألقاه.
يرضى عنى.
فأفهم.
-عبدالرحمن الجندى