اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 12/22/2015
السن وقت الاحتجاز: 25 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة
مكان احتجاز المرسل : مكان احتجاز غير معلوم
المقال الواحد والعشرون – متتالية الغياب 3 – شِــبْــرٌ وقَــبْــضَة
(1)
“الجحيمُ هو الآخرون” هكذا يؤكد جان بول سارتر, الذي يُمَجِّد الفردية ولا يؤمن سوى بالوجود الذاتي الحر. كتبَ سارتر نصًّا مميزًا عن غرفةٍ مُغلقةٍ على أرواح مجموعة من البشر في العالم الآخر, سلوكياتُ وطبائع كُلِّ منهم تُشكِّلُ جحيمًا حقيقيًا للآخر. “لا مَفَرّ, No Exit” هو اسم نص سارتر الأشهر الذي اصطدمت بهِ, ذلك أثناء محاولتي أن أجلو الصدأ عن ذهني بتذكر قصائد, أغانٍ, وكتب أحبها. قفزتْ إليَّ فكرة عبثية أن لو كان سارتر مصريًّا لما احتارت السلطات في إيجاد ألف سبب لكي يسجنوهُ, ولو تنقل في سجون مصر العديدةِ لما تردَّدَ أن يُغيِّرَ اسمَ نصِّهِ الأشهرَ إلى “العَمْبُوكَةْ”.
العَمْبُوكةُ, وفي قولٍ آخر المُصَفَّحَةُ هي الملقف الذي يسقط فيه السجناء الواردون, والعائدون من الجلسات آتين إلى مملكة وادي النطرون. غرفة عاريةٌ تمامًا. مغلقة لأربع وعشرين ساعة إلا عشر دقائق صباحية يخرجُ فيها السجناءُ الجنائيون بملابسهم الداخلية, يصطفون, الوجوه للحائط والمؤخرات للمخبرين, ثم يجلسون بالأمر ويقضون حاجتهم في العراء. لماذا؟ لكي يتأكد المخبرون بعد فحْصِ الخِراء أن أحدًا لم يرفعْ أمبولًا.
[يرفع: فعل مضارع من رَفَعَ أي حرَّك الشيء لأعلى, ويستخدم هذا الفعل في لغة السجون حيث يكون الأعلى هو فتحة شرج السجين الذي يستخدم مؤخرته كمخبأ بعيد عن عيون المخبرين.
الأمبول: كلمة أعجمية تعني في لغة السجون أي مادة ممنوعة مُخدِّر أو نقود ورقية ملفوفة بقطعة من كيس بلاستيكيّْ ضيق مُحكم الغلق بواسطة لهب ولاعة للصهر والإلصاق, قبل الرفع أو البلع]
الغريب أن السجناء الجنائيين لا يرون في قضاء الحاجة الجماعي هذا أي شكلٍ من أشكال الإهانة. يقضون يومهم يأكلون ويدخنون ويثرثرون ويسبون بعضهم البعض.. ولا يسبُّون سجَّانهم! عشتُ معهم لأيام. يعاملوننا باحترام باعتبارنا “ناس عارفين ربنا” أو “ولاد ناس, مش زينا” على حد وصفهم, منهم من يحاول الخروج من المستنقع “عايز أتعلم أقرأ قرآن يا شيخ”, ومنهم من يستسلم للتيار, بلطجة, سرقات, تحرش, وشذوذ جنسيِّ.. إدارات السجون لا تسمح لنا بالإختلاط بهم طويلًا, ليس حرصًا علينا بالطبع, حرصًا على الجنائيين من أن يُتلِف “المخربون” “الخونة” عقولهم..
(2)
كنت قد استعددتُ جيدًا للعَمْبوكة بالامتناع عن الطعام منذُ ليلة الترحيل, وبقيتُ بلا أكل سوى بضع تمرات يوميًا طوال أسبوع إقامتي هناك. المخبرون لا يُجبرون السجناء السياسيين على قضاء الحاجة الجماعيِّ, لكنهم لا يوفرون بديلًا. لا مهرب من الإهانة إذن سوى بالإمتناع عن الطعام.
الإنهاكُ يُثقل أطرافي. الجوع يعصر أحشائي. الصداع ينشرُ رأسي.. الضجيج, الزحام, الروائح العفنة, والدخان شياطين تنهشُ خلايا أعصابي. نصفَ واعٍ كنتُ أهيمُ في الملكوت.. وحدي.
أفكر في أصدقائي الذين تركتهم في سجن المنصورة. كانوا أول وآخر من ترى عيني كلَّ صباحٍ ومساءٍ. من صفحاتِ جرائد مختلفة أنقذتهم كي لا يُلاقوا المصير المؤسف بالتحول لفَرْش طعامٍ يؤكل عليه ويُرمى. قصصتُ كلَّ صورةٍ بعناية, تعمَّدتُ أثناء القص تحريرها من الإطار الذي سُجِنَت بهِ. اخترتُ الحائط الملاصق لكتفي الأيمن, وفي أقرب موضع لعيني وللإضاءة, وضعتُ قِطعًا من معجون الأسنانِ وألصقْتُهمْ.. أصدقائي الثلاث.
الأولُ طفلٌ سوريٌ, لاجيء.. ينام متقوقعًا داخل صندوق خشبي عليه بطانية رمادية –تمامًا كالتي يتسلمها السجناء. وجهه الذي حجبت البطانية نصفه يبدو مُتعبًا.. وجميلًا. بجواره ارتمت حقيبةٌ أظنها صارت كل ما يملك على هذه الأرض. استلقى معطفٌ كبيرٌ موازيًا له.. أظنه لأبيه _إن لم يكن مات.._ ذراعُ المعطفِ تمتدُّ على وسط الطفل.. وكأنها تحضنُهُ.
الثاني صبيُّ, ملابسه رثَّة وضخمة عليهِ جدًا. يُحني ظهرهُ نصفَ انحناءَةٍ ليستطيعَ حمل الجوالِ المُكتَّظ بالأشياء البلاستيكية. حوله مقلبُ قمامةٍ نَتنٌ.. المشهدُ بكامله يبدو مُقتصًّا من أحد أفلام نهاية العالم. وجهُ الصبي باردٌ, لا يُبدي أي تعبير امتعاضٍ أو استجداءٍ, لا يعبأُ بشيء. وراءَهُ حائط إسمنتيٌّ عالٍ, فوق رأسه مباشرةً, وعلى الحائط كُتِبَت عبارة باللون الأحمر: “مصر فوق الجميع”.
الثالثُ كهلٌ, تكسو وجهه تجاعيدُ شقاء مصريِّ الصبغة. شعرُهُ, لحيتُهُ, إطار نظارتِهِ المُلصَّمِ, قميصَهُ الفضفاض, عصاهُ, رضَّاعة اللبنِ في يديه, والعنزةُ المستكينة في حِجْرِهِ, جميعهم أبيض. يحتضنُ العنزة كطفلٍ. يُرضعها وعلى شفتيه ابتسامة رضا, وكأنَّهُ يُحقق الآن الغرضَ الكوني الذي خُلِقَ لأجلِه تحديدًا. الشارع حولَهُ موحِشٌ كبطنِ حوتٍ. وصديقي الكهل يبدو التجلِّي الأوحد للرحمة الإلهية في المشهد البائس.
كنتُ أصبِّح على أصدقائي كل يومٍ في سجن المنصورة, وأشكرهم على البقاء معي قريبين دائمًا هكذا. أحيانًا اديرُ حواراتٍ طويلة بيني وبينهم أو بين أحدِهِم وآخر. لم أُجَنّْ لأخاطب خيالاتٍ لا أعرفُها, ولم أنقطع عن الحوار مع رفاقي السجناءِ, لكن الحديث مع أي سجين لا يخلو من قُضبانِ بشكلٍ ما. وأنا أريدُ أنْ احمي ذهني من الأسر.. من الخضوع.. من البلادة. هنا في العمبوكة أصحو لأدير حواراتٍ أيضًا. مع من؟ مع الدخان.. أصنعُ منهُ أشكالًا وأشخاصًا في خيالي, أحاورُها إلى أن تغيب.. وأغيبَ معها.
(3)
ستة أيام في العمبوكة ثم سُكِّنْتُ أخيرًا في العنبر السياسي. الغرف مُكتظة. ثمانيةٌ وعشرون إنسانًا _يحاولون أن يبقوا كذلك_ في زنزانة ضيقة بحمامٍ واحدٍ. المساحة المتاحة للفرد هنا ضعفُ المساحة المتاحة في العمبوكة تقريبًا.. شبرٌ وقبضةْ أي ستة وثلاثين سنتيمترًا, عليها ستنام _إن استطعت. وتأكل _إن لم تنسد شهيتك. وتقرأ _إن وجدت كتابًا. وتتكلم _إن لم ينعقد لسانك. وتتذكر _إن لم تنضب ذاكرتك. وتضحك _إن لم تجف روحك. وتحلم _إن لم يطحنك الواقعُ. شبرٌ وقبضةٌ.
ضاقت الجدران. السجون تجلو. الزحام يُعرِّي, ليبين أنبلَ وأحطُّ ما في البشر: الإيثار والأنانية, النظام والفوضى, الشجاعة والجبن, الجمالُ والقبح, الحياة والموتُ. نحنُ هنا في عالمٍ آخر, خارج الزمانِ والمكانِ. غائبون.
بدأتُ أكتشفُ من وما حولي لأفاجأ أن الوضع الحالي تحسَّنَ كثيرًا عن ذي قبل: كانت الزيارة دقائق فصارت تُقارب الساعة بفضل الله, كانت العقوبات تغريبًا وتعذيبًا وتحرشًا فصارت فقط تأديب الحمد لله, كان التريضُ ساعةً فأصبح ثلاثًا ما شاء الله. ذلك أن رئيس المباحث الجديد “جزاهُ اللهُ خيرًا” _نعمْ, يدعون لهُ!_ رجلٌ محترمٌ جدًا!
اللعبةُ المعتادة ذاتُها: اهبطْ بهم لكيلومترات تحت سطح الآدمية ثم امنحهم جرعات أُكسجين ضئيلة جدًا تدريجيًا.. وسيشكرونك على كرمِكَ وعطفِكَ, وينسون أنهم لم يزالوا غرقى.. كنتُ أفكِّرُ في ما أنا مقبلٌ عليه: كيف سأوفر سبل حياةٍ هاهُنا من كُتُبٍ ورفقة قبل الطعام والشراب والنوم. لي شبكةُ أصدقاءٍ ممن حُكِمَ عليهم قبلي في سجني المنصورة وطرة استقبال. جيد. يُقال أن الكتبَ تدخل أحيانًا في الزيارات. جيد. كيف ومِن أين سأبدأ؟ نفسًا عميقًا شهقته.. وقبل أن أزفرُهُ سمعتُ النداءَ اللعين “محمد فوزي.. ترحيلة” إلى سجن المنصورة مرةً أخرى.. لا بأس, سأنام على نصف مترٍ لشهرٍ هناك قبل عودتي لمملكة وادي النطرون. سأنامُ أخيرًا.. لكنني سأبقى أفكِّرُ في الغد: كيف يستطيع الإنسان أن يبتني حياةً كاملةً على شبرٍ وقبضةٍ؟