اسم السجين (اسم الشهرة) : محمد فوزي شاهر محمد كشك (محمد فوزي)
النوع الاجتماعي : ذكر
تاريخ تحرير أو نشر الرسالة : 10/13/2015
السن وقت الاحتجاز: 25 عام
الوظيفة – نشاط بالمجال العام: طالب بكلية الصيدلة بجامعة المنصورة
مكان احتجاز المرسل : منطقة سجون طرة
متتالية الغياب”هُوَ..”
[متتالية الغياب]
“هُوَ..”
(1)
الإعدامُ شنقًا بالتفاف حبل عشماوي حول رقبته؟ أم الإعدام أسرًا بالتفاف حبل الزمان حول روحه؟ أن يتدلَّى الجسدْ من المشنقة صوبَ الموت؟ أم أن تُصلبَ الروحُ حيةً على قضبان السجون؟ أيهما أقسى؟ لا أحد يستطيع ضمان النعيم بعد انتقاله إلى العالم الآخر, حتى وإن كان أتقى عباد الله, وحدهُ جلَّ يعلمُ مصائرنا. لكننا جميعًا نستطيع ضمان العدل هناك, أستطيع ضمان الوقوف بين يدي من لا يظلمُ فتيلا.. أمَّا على الأرض فللظلم حبالٌ سميكة, حبال وتلتفُ وتُحْكَمُ بعنفٍ. هو يعرفُ هذه الحبال جيدًا. قُيِّدَ بها.. عُلِّقَ بها.. ولم يزل.
رمز العدالة الشهير امرأةٌ معصوبة العينين كي لا تحكم سوى وفقًا للميزان المقدّس الذي تحملهُ يدُها.. رمزٌ مُعبِّرٌ جدًا. فقط يلزمنا تعديلاتٌ قليلة ليُصبحَ الرمز أكثر دقة في التعبير عمَّا يجري في مصر: فلتَرمِ سيادةُ العدالة الميزانَ أسفلَ قدميها, ولتنتعِلْ كفَّتيه مثلًا, ولتُمسك بيدَها بدلًا منه رشَّاشًا مُوَّجهًا للمُشاهِد مباشرةً, وزيادةً في الدقة لتُبدِّل ملابسها الفضفاضة وتتخِّذ لباسًا داعرًا, هكذا أصْدَقْ: عاهرةٌ معصوبةُ العينينِ توَجِّهُ رشاشها نحوكَ.. وتبتسمُ في فجور.
لماذا لم تطلقُ العاهرة الرصاصَ صوبَ عنقِهِ مباشرةً؟ لماذا أصرتْ أن تغمِسَ سكينها بجراحِهِ.. ثم تتركه لينزف خمسةً وعشرينَ سنةٍ؟ لماذا؟ أية خطورةٍ كان يُشكِّلُها حضوره على الدولة لتحكُمَ عليهِ بالغيابِ المؤبَّدِ هذا..؟!
(2)
هو.. هناكَ حيثُ الهواء المشبّع بالصراخِ والأنين الآدمي, حيثُ للترابِ طعمُ الدماءِ وللظلامِ رائحة الصديد.. هناك لم يخلعوا أظافره. لكنه إثر الجرجرة أرضًا تهشَّمت أجزاءٌ بظفر قدمِهِ.. تدريجيًا إثر اتساخ الزنازن وتلوث الجرح, نما الظفر بشكلٍ جانبي تجاه لحم الإصبع. صارَ شوكةً ذاتيةً مستحيلة الانتزاع. انغرس.. وغار عميقًا في لحمه الحي.. الآن يتمنى لو كانوا خلعوا ظفره في السلخانة, يتمنى لو أنه تجرع الألم شربةً واحدة بدلًا من قطراته اللئيمة الممتدة الوجع..
(3)
هو.. كمجذوبٍ بنوبة فوران, يطرقُ بكفيه العاريتين باب الزنزانة الغليظ, يلصقُ فمَهُ لفتحة النظارة الضيقة, ويصرخ “واحد بيمووت يا ولاد الكااالبْ” يطرقً, يركل, يسب, يلعنُ غير عابيء باحتمالية عزلهِ في زنزانة تأديب لتجرأه على الاشتراك في الهياج والهتاف إسراعًا لطلبِ طبيب. لم يكن مسموحًا إطلاقا أن يتضامن مع زميل في زنزانة مجاورة حتى إذا تأكد من إصابته بأزمة تنفسية إثر فراغ موسِّع الشعب خاصته.. غير عابيءٍ شارك بحدة وانفعال, يتعجب –حين يسترجع المشهد الآن- من امتلاكه لهما في تلك اللحظة..
كانت تلك أولَ حالة إهمال طبي يعايشها في رحلته داخل السجون, هذا طبعًا إذا استثنينا تعامل طبيب السجن مع آثار التعذيب وكأنها وشم خاصٌ رسمَهُ السجينُ لنفسه بنفسه لأسبابٍ حميمة لا يجوز التدخل فيها..
كم من الشهور مضت عليه حين فوجيء بنفسه ينادي السجّان بهدوء “عندنا حالة تسمم في زنزانة 6, عايزين الدكتور.. بسرعة الله يبارك لك يا عم عبد الصادق” ثم يعود لرفاقه.. ثالثهم دخل في نوبة قيءٍ حادة, يسنده, يطمأنه: “تحمَّلْ, بسيطة.. لا.. لا جدوى من أي أقراص, سنتقيأها فورًا, لابد لنا من حقن بمضاد قيء ومطهر معوي, موجودة عندهم بالطبع, قد يأتون خلال نصف ساعة, أو –غالبا- لن يأتوا.. سنتقيءُ حدَّ الإنهاك, فننهد وننام, وغدا يحلها الحلال. كانت الزنزانة كاملة تتبادل الاشتراك في جوقة القيء الجماعي.. تماسك هو قليلًا, ثم عاودته النوبة فأفرغ آخر ما في معدته المتشنجة. جلس أرضًا تذكَّر صديقه ورفيق سكنه, تذكر حين انتابته نوبة كهذي هناك خارجَ الأسوار: “وخزةُ الإبرة في وريدي, رعشة القلق في عيني صديقي, وتربيتته الحانية على رأسي.. ابتسامةٌ.. ونوم” تذكَّر هو الآنَ, فابتسمَ, لكنَّه لم ينَمْ. نظر إلى الباب. مازال في ساعديه قوة ليطرقَ, لكنه لم يفعلْ. نظرتُهُ هادئةٌ.. باردةٌ.. رماديةٌ.
روَّضوه؟ لا أدري. ربما لم يَزَل تحت الرماد جمرةٌ.. تعاند.
(4)
في ليالي الفقد, اعتاد أن يلصق وجهه بأسلاك الشباك, ليرى نجمات الذكريات البعيدة, لعلها تقرضُه بعض الضي. في تلك الليالي اكتشف في قلبه غُرفًا مهجورة وفي روحه مساحاتٍ بكر, خضراء, يانعةً بأزهار محبةٍ خالصةٍ لأهله, لرفقته, أحلامه, ووطنهِ.
لكنَّه مع طول الليالي, وتحت وطأة التكرار, أسلم مساحاتٍ وغرفًا أخرى في أعماقه إلى الصمت.
صمتٍ غير مُطَّعمٍ بتأملٍ أو تفكير, صمتٍ خاوٍ تمامًا..
أليس من حقِّه أن يصمت قليلًا؟ أن يرتاحَ ويكُفَّ عن التغريدِ كتابةً للعالم الخارجي؟ [هذا أوانُ الأنين لا التغريد..] أليسَ من حقهِ أن يبتعد عن الشباكِ ويلتصق بأحد أركان الزنزانة لعلَّه يحافظ على آخر رمقِ دفءٍ في جسده النحيل؟ مادام النور مستحيلًا الآن, والخيارُ بينَ نصفِ حضورٍ في الظلال وبينَ غيابٍ تامٍ في الظلام.. ليكُنْ الغياب.
في الغياب, لا ذاتيةٌ, لا “أنا عليا”, لا خجل. في الغياب يتكوَّر يتلوَّى.. يئنْ. يتأوَّه, يلعقُ جراحه كقطٍ وحيدٍ.. ربما يُشفى, أو.. يُجَّنُ.
هو ليسَ حجرًا –وإنَّ من الحجارة لما يشَّقَّق..- ليثبُتَ في نهر الزمان. ليس قويًا الآن ليسبحَ. ليس جبانًا لينتحرَ في اليأس غرقًا. إنسانٌ يستمسك بآخر نفسِ حياةٍ. يحاول الطفوَ. وفي الطفوِ مقاومةٌ ما..
(5)
هكذا دار الحوارُ بيننا:
– ادعُ الله وثقْ أنَّك ستخرُج قريبًا
= بل ادعُ الله أن أبقى أنا حين أخرج.. ولو بعد حين.
– الله لا ينسى عباده.. أبدًا.
= ولكن عباده ينسون.. كثيرًا.
– يئست؟
= لا. ولن.
– تعبت؟
= جدًا
– اكتب
= لا أرغب
– ابكِ
= لا أستطيع.
– اصرُخ
= لا أقوى.
– ماذا تريد؟
= أريد ان تتركني لحالي. أن أنام ليلةً بلا أرقٍ.. أن أصمتَ يومًا بلا وخز ضمير.. أريدُ أن أغيب.
(6)
هكذا قالوا له: “نحنُ معك.. لن نرحل”, “أنت معنا.. لم تغِبْ”, “عهدناك قويًا.. فابقَ”, “اشتقناك”, “ستُفرج”, “الله يعدِّكَ لشيءٍ كبير.. أبْشِرْ”, “الحياة بشعةٌ في الخارج”, “بكَ نثبت”, “تعبنا..”, “تائهون نحن.. جميعًا”, “سامحنا”, “علاقتنا أكبر من ان تُختَزل في خطاب..” ثُمَّ ماذا؟ ثم ينقطع الإرسالُ تمامًا. لقد رحلوا. لقد غابْ.
(7)
هل تعجبت من الاضطراب الواضح في إيقاع هذا النص؟ اعذرْهُ فالكلمات لا تتحرك برأسه إلا بشكلٍ بندولي أو دائري, تمامًا كما يتمشَّى هو في ممر العنبر. نفس الشكل. ربما ما كان ليكتب بهذا الاضطراب لو استطاع المشي دقيقتين, دقيقتين فقط دون أن تصطدم كلماته بجدارٍ.
(8)
هو..
كيف يكتب “تاء الفاعل” من انعدَم فعلُهُ في العالم الخارجي تمامًا؟
كيف يأمنُ “ياء الملكية” من تهددتْ علاقتُهُ بكل الأشياءِ والبشرِ والأحلامِ في الصميم؟
كيف يلفظُ “ضمير أنا المتكلِّم” من لم يعدْ واثقًا من معرفتِهِ لـ “أناه” بعد تكاثر الشروخ بها كسرطان..؟
مازال يُفضِّلُ قسوة الواقع الصادق على نعومة الأمل الكاذب. لذا حينَ خطَّ قلمه هذه الأسطر, شطبَ تلقائيًا تاء الفاعل, وياء الملكية وأنا المتكلِّم, وبدأ النص وختمه بضمير الغائب:-
هُوَ..