نوّثق كي نكونَ صوتاً لهنّ

03 يوليو 2022 ، الساعة 10:00 صباحًا




سولافة مجدي هي صحافيّة مصريّة ومدافعة عن حقوق الإنسان و سجينة سياسيّة سابقة.
حازت على جائزة الشّجاعة في الصّحافة من المؤسسة الدولية لصحافة المرأة, وفي 2020 قامت شراكة صحيفة الواشنطن لحرية الصحافة بتسليط الضوء على سولافة. تلقّت سولافة عدة تهديدات بالإعدام وبالسَجن مدى الحياة فقط للقيام بعملها-نقل الحقيقة-ومحاسبة من في السّلطة. في ديسمبر 2020 منح محافظ باريس سولافة الجنسيّة الفرنسيّة الفخري, تكريما لها عن عملها.




أكتب هذه السّطور وأنا جالسة خلف الحاسوب، على منضدة سوداء اللّون محاطة بعدد من الأوراق وأقلام الرّصاص، أحب أن أدوّن بقلم الرّصاص، أشعر أنّه قريب إلى قلبي، إلى جانب يدي اليمنى أيضا عدد لا بأس به من المجلّدات، لطالما أحببت المجلّدات الّتي يميل لونها إلى الإصفرار، تأسرني وتأخذني بعيدا إلى عالم قديم يملؤه السّكون والسّلام…

في الواجهة شبّاك زجاجيّ، أفتحه كلّما شئت، وأغلقه أيضا عندما أشعر بالبرد، أدوّن وأرسم وأقرأ وقتما أرغب… 

أحتسي القهوة، وأرد على الهاتف، أتبادل الإبتسامات مع حسام وطفلي الصّغير خالد، لكنّه لم يعد طفلا! يبلغ من العمر 9 سنوات، نلهو سويّا، نقرأ الموضوعات الصّحفيّة الّتي نعمل عليها سويّا.. 

تبدو حياة نمطيّة، طبيعيّة، من حقّ الجميع أن يحياها، يفعل ما يحلو له وقتما شاء وحيثما كان، أليس كذلك؟

على جانب آخر من هذا العالم، تأتي الخواطر من أرض الأحلام لمن يمكثون هناك خلف القضبان.

لذا، اسمحوا لي أن أترك هذه السّطور تأخذكم بعيدا بعض الشّيء، نغوص في الذّاكرة إلى ما قبل ثلاثة أعوام، وبالتّحديد ليلة 26 نوفمبر 2019، إنّها ليلة القبض عليّ! أو بالأحرى ليلة اختطافي وزوجي من أحد ميادين القاهرة العامّة…

حسنا، أنا سولافه مجدي، 36 عاما، صحفيّة مصريّة ومدافعة عن حقوق الإنسان، سُجنت في بلدي قُرابة عامين بسبب عملي كصحفيّة ودفاعي عن حقوق الإنسان والمرأة والأقليّات.

على مدار 10 أعوام مضت، منحت كلّ ومجهودي للعمل الصّحفيّ والحقوقيّ، كنت أعي جيّدا أنّ هذا العمل في مصر وغيرها من الدّول المنغلقة سياسيّا وإجتماعيّا، له ضريبة وعلى الصّحفيّ والحقوقيّ وكلّ دعاة التّغيير أن يتحمّلوها طالما اختاروا هذا الطّريق…

بدأت معرفتي عن قرب بالسّجون المصريّة منذ مساء يوم 26 نوفمبر 2019 عندما تمّ اختطافي وزوجي من ميدان الدقّي (أحد الميادين العامّة وسط القاهرة) من قِبل أفراد أمن مرتدين زيّا مدنيا، وضعونا مكبّلين ومعصوبي العينين داخل سيّارة تابعة لهم “ميكروباص”. تمّ اصطحابنا في البداية إلى قسم شرطة الدّقّي، اعتدى عليّ أحد الضّباط بالضّرب والألفاظ النابية لإجباري على فتح هاتفي وتمّّ تفتيشي ذاتيّا على أيدي إحدى المحتجزات بالقسم أمام القوّة الأمنيّة ثمّ تمّ نقلي من القسم لأحد مقرّات الإحتجاز الغير قانونيّة “مقرّ الأمن الوطنّي في حي العبّاسيّة” حيث مقبرة وسلخانة لكلّ من تغضب عليه الأجهزة الأمنيّة.

بقيت قرابة 24 ساعة مختفية قسريا، إلى أن تلقّى أحد الضّبّاط الأمر بإرسالنا إلى مقرّ نيابة أمن الدّولة العليا بحيّ التّجمّع الخامس.

تمّ عرضى على نيابة أمن الدّولة وأمرت بحبسي 15 يوما على ذمّة التّحقيق، بعد تلفيق مجموعة تهم كلاسيكيّة لا تنفكّ السّلطة على استعمالها في وجه معارضيها وهي “الإنضمام لجماعة إرهابيّة، وبثّ أخبار كاذبة، وزعزعة الأمن والإستقرار” وتمّ ضمّي على القضيّة 488. 

كنت ساذجة لدرجة أنّني توقّعت أن يقوم المحقّق بتوثيق ما تعرّضت له من اختطاف واعتداء وسرقة متعلّقاتي وسيّارتي، يا للبلاهة! إنّه جزء من المنظومة. أدركت ذلك حينما تمّ غضّ البصر عن مطالبتي بتوثيق الإعتداءات، نقلت إثر ذلك إلى سجن القناطر للنّساء…

في بداية أيّامي في السّجن تمّ إيداعي في زنزانة الإيراد وهو العنبر الّذي يستقبل الواردات الجدد، تلك الزّنزانة المقيتة، هي غرفة ضيّقة للغاية، لا يوجد بها سوى شبّاك واحد، وحمّام ذو باب خشبيّ مهترئ، على الجانب أنبوب حديد للإستحمام.

كانت الزّنزانة تضمّ أكثر من 60 سجينة، تحتوي على أسّرة من الحديد الصّاج، كلّ سرير مكوّن من ثلاثة طوابق، ولكن كان يتمّ استخدام طابقين فقط، على أن يتمّ ترك الطّابق الثّالث فارغ كنوع من أنواع التّعنّت مع السّجينات الجدد لذلك كنّا نستلقي ثلاثة سجينات في كلّ طابق، نستخدم غطاء واحد، يسمّى “البطّانيّة الميري”.

و من ثمّ تمّ نقلي إلى زنزانة 8 وهو العنبر المخصّص لقضايا الآداب، فعندما كانت إدارة السّجن ترغب في أن تمعن في إذلال احدى السّجينات يتمّ إيداعها عنبر الآداب ظنّا منهم أنّها وصمة عار.

لم أكن أعرف أحد ممّن كانوا في الزّنزانة وكان عدد السّجينات “اللّاتي على ذمّة قضايا سياسيّة” قليل بالنّسبة إلى عدد السّجينات الجنائيّات ممّا جعل اليد العليا للجنائيّات داخل العنبر وبأمر من إدارة السّجن، حيث كان يتمّ تعين اثنين منهنّ قائمات بأعمال إدارة السّجن داخل العنبر “نبطشة” أي مناوبة، تعمل على رصد تحركات السّجينات لضابط السّجن.

كانت لديهم أيضا مهام اخرى داخل العنبر، مثل المحاولات الكثيرة في افتعال المشكلات معنا بدون سبب أو اغلاق المياه السّاخنة أثناء استخدامنا لدورات المياه في أوقات الشّتاء خاصّة، وغيرها من “المنغّصات” اليوميّة.

رغم تجربتي الّتي يعتبرها الكثيرون أشدّ قسوة مقارنة بـزميلاتي السّابقات واللّاحقات، خاصّة بعد نشر العديد من أعمالي الصّحفيّة الّتي كانت تسلّط الضّوء على انتهاكات الأجهزة الأمنيّة والسلطة مع المواطنين/ات ومع المدافعين/ات عن حقوق الإنسان طوال الأعوام الماضية، ما نتج عنه حملة مناصرة دوليّة واسعة أثارت حفيظة وغضب السّلطات.

 إلاّ أنّه في الحقيقة هناك تجارب كثيرة لسيّدات عانين داخل سجون النّساء المصريّة، كما أنه هنا تدهور واضح من وجهة نظري في تعامل الدّولة مع النّساء والمدافعات على وجه التّحديد خاصّة بعد العام 2013.

فيما قبل 2013 كان الوضع مختلفا فلم يكن هناك هذا التّوسع في اعتقال النّساء، ولكن بداية من عام 2013 بات الأمر- وكأنّ هناك اتّفاقا ضمنيّا بين أجهزة الدّولة أن النّساء هنّ الحلقة الأضعف وعلى الجميع استغلال ذلك بأقصى قدر ممكن ومنذ ذلك الحين صار الإعتداء على السّيّدات وقت اعتقالهنّ وأثناء فترة حبسهنّ أكثر شيوعا. تكمن المفارقة أن ذلك يحدث في وقت يدّعي في نظام السّيسي, ويبارك له بالفعل, كنه من أنصار دعم المرأة وحرّيّاتها. 

إنّ التّنكيل الّذي يحدث للنساء بات معهودا ويمرّ دون عواقب. هذا بخلاف إيداع السّجينات السّياسيّات داخل السّجون في زنازين جنائيّة، عكس سجون الرّجال حيث يتمّ فصل السّياسي عن الجنائيّ، ممّا يجعل ترتيب أيّ فعل جماعيّ لمواجهة الإنتهاكات داخل سجون النّساء أمرا مستحيلا، لذا تواجه كلّ منّا الانتهاكات منفردة أو مع مجموعة صغيرة للغاية إن حالفنا الحظّ وهو ما يعرّضنا لانتهاكات أكثر.

تعرّضت لإنتهاكات عديدة داخل السّجن، المرّة الأولى تمّ إخضاعي لكشف نساء قسري، نتج عنه نزيف حاد استمرّ لعدّة أشهر، كان العقاب بأمر من ضبّاط الأمن لردعي عن مطالبتي بتوفير الرّعاية الصّحيّة لنا كسجينات داخل السّجن وفقا للائحة القانون، والمرّة الثّانية تعرّضت للتّفتيش العاري على أيدي السّجّانات بأمر مباشر من رئيس مباحث السّجن، قبل ذهابي لجلسات التّحقيق أو بعد عودتي، بزعم التّفتيش والبحث عن أيّ ممنوعات كالخطابات مثلا!

المرة الثّالثة وليست الأخيرة عندما تمّ اختطافي مرّة ثانية، ولكن هذه المرّة كانت من داخل السّجن، حيث تمّ اصطحابي من الزّنزانة على أيدي ثلاثة سجّانات، وفور وصولي إلى باب السّجن الرّئيسيّ وُضعت عصابة سوداء على عينياي وتمّ تكبيلي، بطلب من أحد ضبّاط الأمن ، عرّفني على نفسه أنّه من جهة أمنيّة عليا، حضر لمساعدتي، ولكن في المقابل يتوجّب عليّ الإنسياق وراء مطلبه، عليّ أن أتعاون معهم في مقابل إطلاق سراحي… استمرّ استجوابي بشكل غير قانونيّ 6 ساعات، مكبّلة معصوبة العينين، واقفة، تعرّضت خلالهم للسّب والتّحرش، والتهّديد، والإيذاء البدنيّ من قبل شخص أجهل هويّته حتّى اللّحظة.

أدوّن اليوم، وكلّ يوم للحيلولة دون تكرار مثل هذه الإنتهاكات خلف أسوار السّجون، مع العديد من السّجينات ولأنّ الكثير من النّساء لازلن في محنتهنّ قابعات وراء القضبان، علينا أن نكون صوتا لهنّ، علينا ألّا نهدأ يوما قبل حصولهنّ على حرّيّتهنّ، خاصّة ونحن الآن نعلم جيّدا كيف يتمّ التّعامل معهنّ خلف تلك الأبواب الموصدة.